المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 )

وقوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم } ، { إذ } معطوفة على التي قبلها ، والميثاق مفعال من وثق يثق ، مثل ميزان من وزن يزن ، و { الطور } اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم : { الطور } اسم لكل جبل ، ويستدل على ذلك بقول العجاج : [ الرجز ]

دانى جناحيه من الطور فمرْ . . . تقضّيَ البازي إذا البازي كسرْ( {[729]} )

وقال ابن عباس أيضاً : { الطور } كل جبل ينبت ، وكل جبل لا ينبت ليس بطور ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا( {[730]} ) كله على أن اللفظة عربية ، وقال أبو العالية ومجاهد : هي سريانية اسم لكل جبل .

وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة ، قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك ، فصعقوا ، ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا ، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين ، طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم ناراً بين أيديهم ، فأحاط بهم غضبه ، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وقال الطبري رحمه الله عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق ، وكانت سجدتهم على شق ، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً ، فلما رحمهم الله قالوا لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا( {[731]} ) سجودهم على شق واحد .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم ، لأنهم آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة( {[732]} ) ، وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية ، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية ، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين .

وقوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة } في الكلام حذف تقديره : وقلنا خذوا ، و { آتيناكم } معناه أعطيناكم ، و { بقوة } : قال ابن عباس : معناه بجد واجتهاد ، وقيل : بكثرة درس ، وقال ابن زيد : معناه بتصديق وتحقيق ، وقال الربيع . معناه بطاعة الله .

{ واذكروا ما فيه } أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ، ولا تنسوه وتضيعوه( {[733]} ) ، والضمير عائد على { ما آتيناكم } ويعني التوراة ، وتقدير صلة { ما } : واذكروا ما استقر فيه ، و { لعلكم تتقون } ترج في حق البشر .


[729]:- يقال: تقضي البازي: انقض- وكسر الطائر يكسر كسورا: ضم جناحيه حتى ينقض، يريد الوقوع. فإذا ذكرت الجناحين قلت: كسر جناحيه كسرا.
[730]:- أي: كون الطور اسما لجبل معين، أو لكل جبل ينبت، أو لكل جبل أنبت أو لم ينبت- على أن اللفظة عربية.
[731]:- بالميم أي: سلكوا فيه هذا المسلك دائما، وفي بعض النسخ: فأقروا بالقاف.
[732]:- في هذا تكلف، والحق أنهم مكرهون على هذا الإيمان، ومضطرون، كما هو ظاهر النص الكريم، وهم وإن كانوا مضطرين فاستحقاقهم للثواب بعد إنما يكون على عملهم، لا على التزامهم، وقد ثبت في شرعنا كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من أسلم بعد أن رأى السيف مصلتا عليه، واعتذر عن قتله بقوله: إنما قالها خوفا، ولم تكن عن قصد صحيح- قال له: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها صدقا أم لا"؟ وقال: "إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس".
[733]:- المقصود من الكتب السماوية هو تدبرها، والعمل بمقتضاها، لا مجرد تلاوتها وتردادها باللسان فإن ذلك إعراض عنها، واطرح لها كما سيأتي هذا المعنى في قوله تعالى: (نبذ فريق من الذين فإن ذلك إعراض عنها، واطرح لها كما سيأتي هذا المعنى في قوله تعالى: (نبذ فريق من الذين أوتو الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعملون) قال الإمام مالك رحمه الله: "قد يقرأ القرآن من لا خير فيه، فالمراد بالذكر هنا الذكر بالقلب، وهو التدبر أو لازمه وهو العمل، لا مجرد الذكر باللسان".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

الميثاق: المفعال من الوثيقة إما بيمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق.

ويعني بقوله:"وَأذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ": الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: "وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ وَبالْوَالِدَيْنِ إحْسانا... "الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم فيما ذكره ابن زيد [قال]: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله فقالوا: لا، قال: أيّ شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا، قال: خذوا كتاب الله قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم قال: فأخذوه بالميثاق. وقرأ قول الله: "وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لا تَعْبُدونَ إلاّ اللّهَ وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا "حتى بلغ: "وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ" قال: ولو كانوا أخذوه أوّل مرّة لأخذوه بغير ميثاق.

" ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ": وأما الطور فإنه الجبل في كلام العرب، وقيل إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت...

" خُذُوا ما آتَيْنَاكُمْ بقُوّةٍ": اختلف أهل العربية في تأويل ذلك، فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له، وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بقوة، وإلا قذفناه عليكم.

وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول، فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه، فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بمعنى القول أن يكون معه (أن) كما قال الله جل ثناؤه: "إنّا أرْسَلْنا نُوحا إلى قَوْمِهِ أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ" قال: ويجوز أن تحذف (أن).

والصواب في ذلك عندنا أن كل كلام نطق به مفهوم به معنى ما أريد ففيه الكفاية من غيره.

ويعني بقوله "خُذُوا ما آتَيْناكُمْ": ما أمرناكم به في التوراة، وأصل الإيتاء: الإعطاء. ويعني بقوله: "بِقُوّةٍ" بجدّ في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم...عن مجاهد: "خُذُوا ما آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ" قال: تعملوا بما فيه. [و] عن أبي العالية: "خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ" قال: بطاعة. [و] عن قتادة: "خُذُوا ما آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ" قال: القوّة: الجدّ، وإلا قذفته عليكم. قال: فأقرّوا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوّة.

[و] عن السدي: بِقُوةً: يعني بجدّ واجتهاد.

[وعن] ابن زيد "خُذُوا ما آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ" قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق وبحقّ.

فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض فاقبلوه واعملوا باجتهاد منكم في أدائه من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إيّاه بقوّة بجدّ.

" وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ": واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد وترغيب وترهيب، فاتلوه واعتبروا به وتَدبّرُوه إذا فعلتم ذلك كي تتقوا وتخافوا عقابي بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي... عن ابن عباس: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال: تنزعون عما أنتم عليه.

والذي آتاهم الله هو التوراة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ميثاق الله وعهده على وجهين: عهد خلقة وفطرة وعهد رسالة ونبوة... فنقضوا ذلك العهد لما رأوا فيها الحدود والأحكام والشرائع كرهوا، فرفع الله الجبل فوقهم، فقبلوا ذلك...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} بالعمل على ما في التوراة.

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة، فكبرت عليهم وأبوا قبولها، فأمر جبريل فقلع الطور من أصله، ورفعه وظلله فوقهم وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا أُلقي عليكم، حتى قبلوا.

{خُذُواْ} على إرادة القول {مَا ءاتيناكم} من الكتاب

{بِقُوَّةٍ} بجدّ وعزيمة

{واذكروا مَا فِيهِ} واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو قلنا خذوا واذكروا إرادة أن تتقوا.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{خذوا ما آتيناكم بقوة} أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل،

قال الجبائي: هذا يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنه لا يجوز أن يقال: خذ هذا بقوة ولا قوة حاصلة كما لا يقال: اكتب بالقلم ولا قلم، وأجاب أصحابنا بأن المراد: خذوا ما آتيناكم بجد وعزيمة...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

المقصود من الكتب العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها

[ف] قد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من شر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه). فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا... [وفي نفس المعنى نجد أن] النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد: (ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى). وفي الموطأ عن عبد لله بن مسعود قال لإنسان:"إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يبدؤون فيه أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدؤون فيه أهواءهم قبل أعمالهم". وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

والذكر: قد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب... وقد يكون بهما. فباللسان معناه: ادرسوا، وبالقلب معناه: تدبروا، وبهما معناه: ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه. أو أريد بالذكر: ثمرته، وهو العمل، فمعناه: اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع...

{لعلكم تتقون}: أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} تذكيرٌ لجناية أخرى لأسلافهم أي واذكروا وقت أخْذِنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

أطمع الله تعالى بالآية السابقة بني إسرائيل في رحمته بعد ما قرعهم بالنذر التي تكاد توقع اليأس في قلوبهم، وبين لهم ولسائر الناس أن المنفذ إلى هذا الطمع بل الباب الذي يؤدي إلى هذا الرجاء هو الجمع بين الأمرين اللذين بعث لتقريرهما الأنبياء عليهم السلام وهما الإيمان الصحيح اليقيني والعمل الصالح، وإشراك غير بني إسرائيل في هذا الحكم لا يقضي بانتهاء السياق، بل لا يزال الكلام في بني إسرائيل، ولذلك عقب الأطماع بالتذكير ببعض الوقائع التي استحقوا فيها العقوبة فحالت دون وقوعها الرحمة فقال {وإذ أخذنا ميثاقكم} وهو العهد الذي أخذه عليهم وتقدم الكلام فيه، وأما قوله {ورفعنا فوقكم الطور} فقد ذكر المفسرون فيه قصة وهي أن الله تعالى ظلل بني إسرائيل بالطور وهو الجبل المعروف وخوفهم يرفعه فوقهم ليذعنوا ويؤمنوا. ثم اعترض عليه بعضهم بأنه إكراه على الإيمان وإلجاء إليه وذلك ينافي التكليف، وأجيب بأجوبة منها أن ما يفعل بالإكراه يعود اختياريا بعد زوال ما به الإكراه، ومنها أن مثل هذا الإلجاء والإكراه كان جائزا في الأمم السابقة، ويزيد من قال هذا أن نفي الإكراه في الدين خاص بالإسلام لقوله تعالى {لا إكراه في الدين} وقوله {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.

قال الأستاذ الإمام: لا حاجة لنا في فهم كتاب الله إلى غير ما يدل عليه بأسلوبه الفصيح فهو لا يحتاج في فهمه إلى إضافات ولا ملحقات، وقد ذكر لنا مسألة رفع الطور فوق بني إسرائيل ولم يقل إنه أراد بذلك الإكراه على الإيمان، وإنما حكى عنهم في آية أخرى أنهم ظنوا أنه واقع بهم فقد قال تعالى في سورة الأعراف {وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} والنتق الزعزعة والهز والجذب والنفض ونتق الشيء ينتقه وينتقه – من بابي ضرب ونصر – نتقا جذبه واقتلعه وقد يكون ذلك في الآية بضرب من الزلزال كما يدل عليه التعبير بالنتق وهو في الأصل بمعنى الزعزعة والنفض. والمفهوم من أخذ الميثاق أنهم قبلوا الإيمان وعاهدوا موسى عليه. فرفع الطور وظنهم أنه واقع بهم من الآيات التي رأوها بعد أخذ الميثاق كان لأجل أخذ ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد لأن رؤية الآيات تقوي الإيمان، وتحرك الشعور والوجدان، ولذلك خاطبهم عند رؤية تلك الآية بقوله {خذوا ما آتيناكم بقوة} أي تمسكوا به واعملوا بجد ونشاط، لا يلابس نفوسكم فيه ضعف، ولا يصحبها وهن ولا وهم، ثم قال {واذكروا ما فيه} أي بالمحافظة على العمل به، فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، ويؤثر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. وذلك أن العلم إنما يحضر في النفس مجملا غير سالم من إبهام وغموض، فإذا برز للوجود بالعمل صار تفصيليا جليا، ثم ينقلب النظري منه بالتكرار والمواظبة بديهيا ضروريا. وبذلك يثبت فلا ينسى. وأما النسيان فإنه حليف الكفر وإنه ليصل بالإنسان إلى حد يساوي فيه من لم تسبق له معرفة بالشيء قط لأنه لا أثر له في النفس ولا في الظاهر. ولا فرق بين من بلغته دعوة الهداية فسلم بها وقبلها ثم ترك العمل بها حتى نسيها، وبين من لم تبلغه البتة ومن بلغته على وجه غير مقنع فلم يؤمن – إلا بما تكون الحجة به على الأول أظهر، وكونه بالمؤاخذة أجدر، والثاني معذور عند الجماهير، وكذلك الثالث إذا استمر على النظر من غير تقصير، فعلى هذا تكون منزلة الناسي هي التي تلى منزلة الجاحد المعاند، وهو خليق بأن يحشر يوم القيامة أعمى عن طريق النجاة والسعادة، حتى إذا لقي ربه قال {20: 124 رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}.

وأقول: إن في هذا لحجة على قراء القرآن الذين ليس لهم منه إلا التغني بألفاظه وأفئدتهم هواء لا أثر فيها للقرآن، وأعمالهم لا تنطبق على ما جاء به القرآن، وهذا شر نوعي الإنسان، وقد ضرب له أبو حامد الغزالي مثل عبيد أقطعهم سيدهم بستانا وكلفهم إصلاحه وعمارته، وكتب لهم كتابا يبين لهم فيه كيف يسيرون في هذا الإصلاح، وكيف تكون حياتهم فيه، ووعدهم على الإحسان بمكافأة وأجر فوق ما يستفيدونه من ثمرات البستان وغلاته، وتوعدهم على الإساءة في العمل بالعقوبة الشديدة وراء ما يفوتهم من خيرات البستان، وما يذوقون من مرارة سوء المعامل فيما بينهم، فكان حظهم من الكتاب تعظيم رقه وورقه، والتغني بلفظه، وتكرار تلاوته، بدون مبالاة بالأمر والنهي ولا اعتبار بالوعد والوعيد فيه، بل عاثوا في أرض البستان مفسدين فأهلكوا الحرث والنسل، فهل يكون حظ هؤلاء من الكتاب غير أنه حجة عليهم، وقاطع لألسنة العذر منهم؟؟

أمرهم بالذكر الذي يثبت بالعمل، ووصله بذكر فائدته وهي إعداده النفس لتقوى الله عز وجل، فقال {لعلكم تتقون} فإن المواظبة على العمل بما يرشد إليه الكتاب تطبع في النفس ملكة مراقبة الله تعالى فتكون بها نقية نقية، راضية مرضية (والعاقبة للتقوى).

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

فحال التارك للشريعة المضيع لأحكامها أشبه بحال الجاحد المعاند لها، وهو جدير بأن يحشره الله يوم القيامة أعمى عن طريق الفلاح والسعادة حتى إذا لقي ربه

{قال: رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} فالجاحد للشريعة والناسي لها المضيع لأحكامها، لا يكون لها أثر في نفوسهما لا ظاهرا ولا باطنا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يمضي السياق يستعرض مواقف بني إسرائيل في مواجهة يهود المدينة بمسمع من المسلمين. (وإذ أخذنا ميثاقكم، ورفعنا فوقكم الطور: خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون. ثم توليتم من بعد ذلك، فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين)..

وتفصيل هذا الميثاق وارد في سور أخرى، وبعضه ورد في هذه السورة فيما بعد. والمهم هنا هو استحضار المشهد، والتناسق النفسي والتعبيري بين قوة رفع الصخرة فوق رؤوسهم وقوة أخذ العهد، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة. وأن يعزموا فيه عزيمة. فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة.. إنه عهد الله مع المؤمنين.. وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق.. وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته. إنه أمر عظيم. أعظم من كل ما في هذا الوجود. فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على هذه التكاليف. ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة، كما قال رسول الله [ص] وقد نودي للتكليف:"مضى عهد النوم يا خديجة".. وكما قال له ربه: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا.. وكما قال لبني إسرائيل:

(خذوا ما آتيناكم بقوة). (واذكروا ما فيه لعلكم تتقون)..

ولا بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم.. لا بد مع هذا من تذكر ما فيه، واستشعار حقيقته، والتكيف بهذه الحقيقة، كي لا يكون الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة. فعهد الله منهج حياة، منهج يستقر في القلب تصورا وشعورا، ويستقر في الحياة وضعا ونظاما، ويستقر في السلوك أدبا وخلقا، وينتهي إلى التقوى والحساسية برقابة الله وخشية المصير.

ولكن هيهات! لقد أدركت إسرائيل نحيزتها، وغلبت عليها جبلتها.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{خذوا ما آتيناكم بقوة}.. الأخذ عادة مقابل للعطاء.. أنت تأخذ من معطٍ.. والتكليف أخذ من الله حتى تعطي به حركة صلاح في الكون. إذن كل أخذ لابد أن يأتي منه عطاء؛ فأنت تأخذ من الجيل الذي سبقك وتعطي للجيل الذي يليك.. ولكنك لا تعطيه كما هو، ولكن لابد أن تضيف عليه. وهذه الإضافة هي التي تصنع الحضارات.

{بقوة}... أي لا تأخذوا التكليف بتخاذل.. والإنسان عادة يأخذ بقوة ما هو نافع له.. ولذلك فطبيعة مناهج الله أن تؤخذ بقوة و بيقين... لتعطي خيرا كثيرا بقوة وبيقين... وإذا أخذت منهج الله بقوة فقد ائتمنت عليه وأن صدرك قد انشرح وتريد أن تأخذ أكثر... لذلك تجد في القرآن الكريم يسألونك عن كذا... دليل على أنهم عشقوا التكليف وعلموا أنه نافع فهم يريدون زيادة النفع. ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: {خذوا ما آتيناكم بقوة}... فقد عشقوا التكليف ولم يعد شاقا على أنفسهم.

{واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}... اذكروا ما فيه أي ما في المنهج وأنه يعالج كل قضايا الحياة واعرفوا حكم هذه القضايا...

{لعلكم تتقون} أي تطيعون الله وتتقون عقابه وعذابه يوم القيامة...