خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
وقوله تعالى : { ختم الله } مأخوذ من الختم وهو الطبع ، والخاتم الطابع ، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة ، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال والإعراض إصبعاً إصبعاً . ( {[196]} )
وقال آخرون : ذلك على المجاز ، وأن ما اخترع( {[197]} ) الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختماً .
وقال آخرون ممن حمله على المجاز( {[198]} ) : «الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده ، كما يقال أهلك المال فلاناً وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه( {[199]} ) » .
وقرأ الجمهور : { وعلى سمعهم } .
وقرأ ابن أبي عبلة : «وعلى أسماعهم » ، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير ، وأيضاً فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد ، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف وأقام المضاف إليه مقامه .
والغشاوة الغطاء المغشي الساتر ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي . . . إذا الدخان تغشى الأشمط البرما( {[200]} )
وقال الآخر( {[201]} ) : [ الحارث بن خالد المخزومي ] : [ الطويل ]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة . . . فلما انجلتْ قطعت نفسي ألومها
ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره .
وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه «غشاوة » بالنصب على تقدير وجعل على أبصارهم غشاوة ، والختم على هذا التقدير في القلوب والأسماع ، والغشوة على الأبصار ، والوقوف على قوله { وعلى سمعهم } .
وقرأ الباقون «غشاوةٌ » بالرفع .
قال أبو علي : «وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله( {[202]} ) على ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به » وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وإما أن تحمله على فعل يدل عليه { ختم } تقديره وجعل على أبصارهم ، فيجيء الكلام من باب :
. . . . . . . . . . . . . . . . . *** متقلداً سيفاً ورمحاً( {[203]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . علفتها تبناً وماءً بارداً( {[204]} )
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار . فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة « .
قال : » ولم أسمع من الغشاوة فعلاً مصرفاً بالواو ، فإذا لم يوجد ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة( {[205]} ) من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء ، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من الجباوة .
وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع والأبصار ، والوقف في قوله { على قلوبهم } .
وقال آخرون : » الختم في الجميع ، والغشاوة هي الخاتم( {[206]} ) « .
قال القاضي أبو محمد : وقد ذكرنا( {[207]} ) اعتراض أبي عليّ هذا القول .
وقرأ أبو حيوة » غَشوة « ، بفتح الغين والرفع ، وهي قراءة الأعمش .
وقال الثوري : » كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «غَشيةٌ » بفتح الغين والياء والرفع « .
وقرأ الحسن : » غُشاوة «بضم الغين ، وقرئت » غَشاوة «بفتح الغين ، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة الأشياء التي هي أبداً مشتملة ، فهكذا يجيء وزنها كالضمامة والعمامة والكنابة والعصابة والربابة وغير ذلك . ( {[208]} )
قوله تعالى : { ولهم عذاب عظيم } معناه بمخالفتك يا محمد وكفرهم بالله استوجبوا ذلك ، و { عظيم } معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور ، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر ، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ختم الله على قلوبهم}: يعني طبع الله على قلوبهم، فهم لا يعقلون الهدى.
{وعلى سمعهم}: يعني آذانهم، فلا يسمعون الهدى.
{وعلى أبصارهم غشاوة}: يعني غطاء، فلا يبصرون الهدى.
{ولهم عذاب عظيم}: يعني وافر لا انقطاع له.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأصل الختم: الطبع. والخاتم هو الطابع، يقال منه ختمت الكتاب إذا طبعته...
فإن قال لنا قائل: وكيف يختم على القلوب، وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف، قيل: فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع التي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الإنباء عن المغيبات، نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف...
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه. فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه:"كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"...
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم... "نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها...
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه، وفيما حدّد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى سمعهم فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوّته، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه وصحة أمره. وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى...
عن ابن عباس:"خَتمَ اللّهُ على قُلُوبِهِمْ وَعلى سَمْعهِمْ وَعلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَة": أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الختم على الشيء يمنع ما ليس فيه أن يدخله وما فيه أن يخرج منه، وكذلك حَكَمَ الحقُّ سبحانه بألا يُفارقَ قلوبَ أعدائه ما فيها من الجهالة والضلالة، ولا يدخلها شيء من البصيرة والهداية. على أسماع قلوبهم غطاء الخذلان، سُدَّت تلك المسامع عن إدراك خطاب الحق من حيث الإيمان...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار.
فقال في الإنكار:"قلوبهم منكرة وهم مستكبرون 66" [النحل: 22].
وقال في الحمية: "إذ جعل الذين 67 كفروا في قلوبهم الحمية". [الفتح: 26]
وقال في الانصراف:"ثم انصرفوا صرف 68 الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون "[التوبة: 127].
وقال في القساوة:"فويل للقاسية 69 قلوبهم من ذكر الله "[الزمر: 22]. وقال:"ثم قست 70 قلوبكم من بعد ذلك "[البقرة: 74].
وقال في الموت:"أو من كان 71 ميتا فأحييناه "[الأنعام: 122]. وقال:"إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى 72 يبعثهم الله "[الأنعام: 36].
وقال في الرين:"كلا بل ران 73 على قلوبهم ما كانوا يكسبون". [المطففين: 14].
وقال في المرض: "في قلوبهم مرض". [محمد: 29]
وقال في الضيق:"ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا 74 حرجا". [الأنعام: 125].
وقال في الطبع: "وطبع على قلوبهم 75 فهم لا يفقهون "[التوبة: 87]. وقال: "بل طبع الله عليها 76 بكفرهم" [النساء: 155].
وقال في الختم: "ختم الله على قلوبهم". [البقرة: 7]...
قوله:"على قلوبهم "فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للإنسان وغيره. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه، فالقلب موضع الفكر... ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله.
روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة). ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به،
قال الله تعالى:"واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه "[الأنفال: 24]... الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب -وإن رئيسها وملكها- بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن،
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه). وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة: (أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه). قال: وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله:"كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "[المطففين: 14]...
[و] القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى:"كذلك لنثبت به فؤادك "[الفرقان: 32] وقال:"ألم نشرح لك صدرك "[الشرح: 1] يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل، قال الله تعالى:"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب "[ق: 37] أي عقل، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد، والله أعلم...
" ولهم" أي للكافرين المكذبين "عذاب عظيم" نعته. والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد، إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان. وفي التنزيل: "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" [النور: 2] وهو مشتق من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعْذِبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه، ومنه سمي عذوبة الماء، لأنها قد أعذبت. واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه، ومنه قول علي رضي الله عنه: أعذبوا نساءكم عن الخروج، أي احبسوهن. وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال: أعذبوا عن ذكر النساء [أنفسكم] فإن ذلك يكسركم عن الغزو، وكل من منعته شيئا فقد أعذبته، وفي المثل: "لألجمنك لجاما معذِبا" أي مانعا عن ركوب الناس...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
أبو إسحاق: معنى ختم وطبع في اللغة واحد...
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب: المراد بالقلب في كثير من الآيات: العقل والمعرفة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم وصف سبحانه فقدهم لهذا الاستعداد، ورسوخهم في الكفر الذي لم يبق معه محل لغيره بهذا التعبير البليغ {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة}.
قال الراغب: الختم والطبع يقال على وجهين: مصدر ختمت وطبعت، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع (والثاني) الأثر الحاصل عن النقش، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو {ختم الله على قلوبهم * وختم على قلبه وسمعه} -إلى أن قال – فقوله {ختم الله على قلوبهم}... إشارة إلى ما أجرى الله به العادة أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور – ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق – يورثه ذلك هيئةً تُمَرِّنُهُ على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه. وعلى ذلك {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) اه المراد منه.
وأقول: إن مراده أن هذا التعبير مثل لمن تمكن الكفر في قلوبهم حتى فقدوا الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلة الإيمان ومحاسنه. ختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غير ما رسخ فيها، وعلى أسماعهم فلا يسمعون آيات الله المنزلة سماع تأمل وتفقه. وقوله {وعلى أبصارهم غشاوة} جملة معطوفة على جملة (ختم) والغشاوة ما يغطى به الشيء، ومعنى هذه المادة: غ ش ي- التغطية. والمراد أن أبصارهم لا تدرك آيات الله المبصرة الدالة على الإيمان، فكل من الفريقين لا يرجى إيمانه وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم، وعبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه، وهو لا يدل على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وأعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها وملك أمرها حتى لم يعد فيها استعداد لغيره كما تقدم مثله عن الراغب.
ويوضح ما قلناه: قوله تعالى في سورة المنافقين {63: 3 ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} وقوله في اليهود من سورة النساء {4: 154 فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم: قلوبنا غلف. بل طبع الله عليها بكفرهم؛ فلا يؤمنون إلا قليلا} فذكر أن الطبع على قلوبهم إنما هو بسبب كفرهم وتلك المعاصي التي أسندها إليهم وقوله تعالى في سورة الجاثية {45: 22 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة – فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون؟} فقد ذكر من فعله المسند إليه أنه اتخذ إلهه هواه ومن صار هواه معبوده لا يفيد معه شيء. وقد صرح هنا بأن الغشاوة على بصره من جعل الله تعالى، ولم يصرح بذلك في آية البقرة التي نفسرها، والمعنى واحد. ولشيخنا الأستاذ الإمام دقائق في هذه التعبيرات ادخرها الله تعالى له، قال:
يقولون: إن الختم والطبع والرين ألفاظ تجري على شيء واحد، وهو تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسه، والقلوب مراد بها العقول، والمراد بالسمع الأسماع، وإفراده أن أصله مصدر ومن شأن المصادر أن لا تجمع، وقد لوحظ هنا الأصل، والأبصار العيون التي تدرك المبصرات من الأشكال والألوان.
(قال) وأنا أرى في مسألة هذا الجمع والإفراد رأيا آخرا، إذ لو صح ما قيل فإن البصر أيضا مصدر فلماذا جمعه؟ والذي أراه أن العقل له وجوه كثيرة في إدراك المعقولات، فليس الناس فيه سواء؛ فجمع لاختلاف الناس فيه، وأنواع تصرفهم في وجوهه، بخلاف السمع فإن أسماع الناس تتساوى في إدراك المسموعات فلا تتشعب تشعب العقول في إدراك المعقولات. وأما الأبصار فهي مثل العقول في التشعب، وأعظم معين للعقول في إدراكها، لأن أنواع المبصرات كثيرة فتعطي للعقل مواد كثيرة، والسمع لا يدرك إلا الصوت، وليس في الكلام عند النقل طريق من طرق العلم اليقيني إلا التواتر [بخلاف ما نقطع فيه بالضرورة من طريق العقل والبصر، فهو كثير، فالأوليات 255 كالحكم بأن الجزء أصغر من الكل وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، والقضايا التي قياساتها معها 256- من المعقولات المحضة. والتجربيات والحدسيات 257 يشترك فيها العقل والبصر، والقسم الأعظم من المشاهدات سبيل الإدراك فيه البصر. فالعقول والأبصار بمنزلة ينابيع كثيرة تنبجس من كل منها عيون للعلم مختلفة، بخلاف السمع فإنه ينبوع واحد لا اختلاف فيما يصدر عنه] فالحاصل أن العقول والأبصار تتصرف في مدركات كثيرة فكأنها صارت بذلك كثيرة فجمعت، وأما السمع فلا يدرك إلا شيئا واحدا فأفرد.
سأله سائل: كيف هذا، وقد قالوا: إن السمع أفضل من البصر؟ فقال: أنا لا أتكلم في التفضيل، ذلك إلى الله ورسوله، وإنما أشرح موجودا وأبين مناسبة اللفظ له، [وإن المشاهدة قاضية بأن العقل لا منتهى لتصرفه، وبأن أقل ما قيل في البصر أنه يدرك الألوان، والأشكال، والمقادير؛ والسمع لا يدرك إلا الأصوات فقط، كما أن الذوق لا يحس إلا بالمذوقات وحدها، وإن كان ما يصل من طريق السمع قد يتضمن حكاية عن معقول أو مبصر، ولكن وروده على الحكاية لا يغير من حقيقته، فهو معقول أو مبصر، فمن ذكر لك برهانا على حقيقة علمية فإنما تسمع منه الأصوات والحروف. وأما فهمك المقدمات ووصولك منها إلى النتائج فهو من طريق عقلك لا من طريق سمعك؛ فإن كان حديث الأفضلية يستند إلى أن جميع المدركات قد يمكن أن يعبر عنها بالكلام – وهو مسموع – فقد بينا لك ما فيه، ويعارضه أن جميع ضروب الكلام يصح أن تكتب وطريق فهمها من الرقم إنما هو البصر، والحق أن المعول عليه في تعدد الطريق ليس ما يكون من قبيل الحكاية؛ بل ما يكون من طبيعة القوة.
وأما انطباق الكلام على تلك الأقسام السابقة وبيان حرماتهم وكونهم كما وصفوا – فهو بالنسبة إلى الطائفة التي عاندت الحق وهي تعرفه – ظاهر لأنهم لما عاندوا الحق لأنه لم يأت على أيديهم [فقد طبع على قلوبهم بطابع ذلك العناد نفسه، فإنه قد حيل بين عقولهم وإدراك ما يصيرون إليه بالإصرار على الباطل من ضعف أمر وفساد حال في الدنيا، وشقاء وخلود في نكال الآخرة، ثم هم قد حجبوا به عن إدراك ما يتبع] ذلك الحق من المعارف والحقائق الأخرى؛ فقد ختم على قلوبهم بالنسبة إلى ما حجبوا عنه.
وأما الختم على سمعهم فلأنهم صموا عن سماع الحق واستماع القول لفهمه، فمن أعرض عن فهم الحق فهو لم يسمع إلا صوتا لم ينفذ شيء من معناه إلى موضع الإدراك الحقيقي منه، فقد ختم على سمعه فلا ينفذ إليه شيء ينتفع به.
وأما الأبصار فإنما كانت عليها غشاوات عند هؤلاء الجاحدين، لأن فائدة البصر، هي التوقي من الخطر، والعبرة بما يبصر، فمن لم ينظر في الآيات الكونية التي تقع تحت بصره كل يوم كأنه لم يبصر شيئا منها، فقد ضرب على بصره بغشاوة. [وأما بالنسبة إلى القسمين الآخرين اللذين جمعا تحت قسم واحد وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين كما سبق فالختم على القلوب والسمع والأبصار ظاهر لأنهم لم ينتفعوا بشيء من هذه القوى حتى في فهم ما يعرض عليهم، ورؤية ما يقع تحت حواسهم] والكلام كله ضرب من التمثيل يعرفه اللسان وتعهده اللغة. والمعنى هو ما بينا والله أعلم. [والكلام كان حديث الختم تمثيلا لفقد حقيقة الفهم والحرمان من فوائد تلك المواهب الإلهية: مواهب العقل والسمع والأبصار – كان إسناده إلى الله تأكيدا لمعنى الحرمان، وتقديرا لمصيبة الخسران، لأن ما ختم بيد الله لا تفضه يد سواه].
وأما النكتة في استعمال الختم مع القلب والسمع، والغشاوة مع البصر؛ فهي أن الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور. وهكذا موضع حس السمع، وموضع الإدراك من العقل، والإسماع في ظاهر الخلقة، وأما البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة (قال) ومثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب التلخيص "ولكل كلمة مع صاحبتها مقام "
{ولهم عذاب عظيم} أقول: العذاب اسم لما يؤلم ويذهب بعذوبة الحياة من ضرب ووجع وجوع وظمأ. قال الراغب: واختلف في أصله، فقال بعضهم: هو من قولهم: عذب الرجل إذا ترك المأكل (زاد غيره من شدة العطش) والنوم، فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب في الأصل هو حمل الإنسان أن يعذب، أي بجوع وبسهر. وقيل: أصله من العذب، فعذبته: أزلت عذب حياته. على بناء: مرّضته وقذيته 258 وقيل أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفه ا ه. وقال البيضاوي العذاب كالنكال بناء ومعنى تقول أعذب عن الشيء ونكل عنه – إذا أمسك ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، ولذلك يسمى نقاحا وفراتا ثم اتسع فأطلق على كل ألم فادح وإن لم يكن عقابا يردع الجاني عن المعاودة إلخ. والعظيم ضد الحقير فهو فوق الكبير الذي هو ضد الصغير. وتنكير العذاب هنا للإشارة إلى أنه نوع منه مبهم مجهول عند أهل الدنيا، بناء على أن المراد به عذاب الآخرة التي هي من عالم الغيب. وقال شيخنا تبعا للجمهور: التنكير فيه للتعظيم والتهويل ووصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حد العظمة كمّا وكيفا، فهو شديد الإيلام، وطويل الزمان. وهل هذا العذاب في الدنيا أم في الآخرة؟ قال في آية {5: 41 لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} فيؤخذ من هذه الآية من آيات أخرى أن الإعراض عن هدى الإسلام، وما أرشد إليه من إصلاح المعاش والمعاد، جزاؤه الضنك والضيق وفقد العزة والسلطة في الدنيا، والعذاب العظيم في العقبى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله، فإذا عَلم أن على قلوبهم ختماً وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة عَلِمَ سبب ذلك كله وبطل العجب. وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشًّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصُول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ خَتَم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن المشبه محقق عقلاً لا حساً.
ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلاً بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة كما تقدم بهيئة الختم، وتشبيه هيئة متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة وكل ذينك من تشبيه المعقول بالمحسوس، ولك أن تجعل الختم والغشاوة مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس، والختم في اصطلاح الشرع استمرار الضلالة في نفس الضال أو خلق الضلالة، ومثله الطبع، والأكنة.
والمراد من القلوب هنا الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية، وتطلقه على الإدراك والعقل، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي الحقيقة، إنهم [الذين كفروا] ينالهم عقابان:
[إحدهما] -ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزوا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم.
[و] العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة. والتنكير في {غشاوة} فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالي على الحق.
وكما أعطانا الحق سبحانه وتعالى أوصاف المؤمنين يعطينا صفات الكافرين.. وقد يتساءل بعض الناس إذا كان هذا هو حكم الله على الكافرين؟ فلماذا يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان منهم وقد ختم الله على قلوبهم؟! ومعنى الختم على القلب هو حكم بألا يخرج من القلب ما فيه من الكفر.. ولا يدخل إليه الإيمان..
نقول إن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين.. فإن استغنى بعض خلقه عن الإيمان واختاروا الكفر.. فإن الله يساعده على الاستغناء ولا يعينه على العودة إلى الإيمان.. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي:
" أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني.. فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "262.
وقد وضح الحديث القدسي أن الله تبارك وتعالى يعين المؤمنين على الإيمان، وأن الله جل جلاله كما يعين المؤمنين على الإيمان.. فإنه لا يهمه أن يأتي العبد إلي الإيمان أو لا يأتي.. ولذلك نجد القرآن دقيقا ومحكما بأن من كفروا قد اختاروا الكفر بإرادتهم. واختيارهم للكفر كان أولا قبل أن يختم الله على قلوبهم.. والخالق جل جلاله أغنى الشركاء عن الشرك.. ومن أشرك به فإنه في غنى عنه.
إن الذين كفروا.. أي ستروا الإيمان بالله ورسوله.. هؤلاء يختم الله بكفرهم على آلات الإدراك كلها.. القلب والسمع والبصر. والقلب أداة إدراك غير ظاهرة.. وقد قدم الله القلب على السمع والبصر في تلك الآية لأنه يريد أن يعلمنا منافذ الإدراك.. وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى:
{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون "78 "} (سورة النحل).
وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في الإنسان هي السمع والأبصار والأفئدة.. ولكن في الآية الكريمة التي نحن بصددها قدم الله القلوب على السمع والأبصار.. أن الله يعلم أنهم اختاروا الكفر.. وكان هذا الاختيار قبل أن يختم الله على قلوبهم.. والختم على القلوب.. معناه أنه لا يدخلها إدراك جديد ولا يخرج منها إدراك قديم.. ومهما رأت العين أو سمعت الأذن.. فلا فائدة من ذلك لأن هذه القلوب مختومة بخاتم الله بعد أن اختار أصحابها الكفر وأصروا عليه.. وفي ذلك يصفهم الحق جل جلاله:
{صم بكم عمي فهم لا يرجعون "18 "} (سورة البقرة).
ولكن لماذا فقدوا كل أدوات الإدراك هذه؟.. لأن الغشاوة التفت حول القلوب الكافرة، فجعلت العيون عاجزة عن تأمل آيات الله.. والسمع غير قادر على التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إذن فهؤلاء الذين اختاروا الكفر وأصروا عليه وكفروا بالله برغم رسالاته ورسله وقرآنه.. ماذا يفعل الله بهم؟ أنه يتخلى عنهم. ولأنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين فإنه ييسر لهم الطريق الذي مشوا فيه ويعينهم عليه.. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين" 36 "} (سورة الزخرف).
{هل أنبئكم على من تنزل الشيطان "221" تنزل على كل أفاكٍ أثيمٍ "222 "} (سورة الشعراء).
ومن عظمة علم الله تبارك وتعالى أنه يعلم المؤمن ويعلم الكافر.. دون أن يكون جل جلاله تدخل في اختيارهم.. فعندما بعث الله سبحانه وتعالى نوحا عليه السلام.. ودعا نوح إلى منهج الله تسعمائة وخمسين عاما. وقبل أن يأتي الطوفان علم الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن بنوح عليه السلام إلا من آمن فعلا.. فطلب الله تبارك وتعالى من نوح أن يبني السفينة لينجو المؤمنون من الطوفان.. واقرأ قوله جل جلاله:
{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" 36 "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" 37 "} (سورة هود).
وهكذا نرى أنه من عظمة علم الله سبحانه وتعالى.. أنه يعلم من سيصر على الكفر وأنه سيموت كافرا.. وإذا كانت هذه هي الحقيقة فلماذا يطلب الله تبارك وتعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم بالمنهج وبالقرآن؟.. ليكونوا شهداء على أنفسهم يوم القيامة.. فلا يأتي هؤلاء الناس يوم المشهد العظيم ويجادلون بالباطل.. أنه لو بلغهم الهدى ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا.. ولكن لماذا يختم الله جل جلاله على قلوبهم؟.. لأن القلب هو مكان العقائد.. ولذلك فإن القضية تناقش في العقل فإذا انتهت مناقشتها واقتنع بها الإنسان تماماً فإنها تستقر في القلب ولا تعود إلى الذهن مرة أخرى وتصبح عقيدة وإيمانا.. والحق سبحانه وتعالى يقول:
{فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (من الآية 46 سورة الحج).
وإذا عمى القلب عن قضية الإيمان.. فلا عين ترى آيات الإيمان.. ولا أذن تسمع كلام الله.. وهؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان لهم في الآخرة عذاب عظيم.. ولقد وصف الله سبحانه وتعالى العذاب بأنه أليم.. وبأنه مهين.. وبأنه عظيم.. العذاب الأليم هو الذي يسبب ألما شديدا.. والعذاب المهين هو الذي يأتي لأولئك الذين رفعهم الله في الدنيا.. وأحيانا تكون الإهانة أشد إيلاما للنفس من ألم العذاب نفسه.. أولئك الذين كانوا أئمة الكفر في الدنيا.. يأتي بهم الله تبارك وتعالى يوم القيامة أمام من اتبعوهم فيهينهم.. أما العذاب العظيم فإنه منسوب إلى قدرة الله سبحانه وتعالى.. لأنه بقدرات البشر تكون القوة محدودة.. أما بقدرات الله جل جلاله تكون القوة بلا حدود.. لأن كل فعل يتناسب مع فاعله.. وقدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة في كل فعل.. وبما أن العذاب من الله جل جلاله فإنه يكون عذابا عظيما.