التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (7)

وقوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ( الختم هو الطبع ، وقيل : التغطية للحيلولة دون ولوج الشيء في ما هو مغطى ، والمقصود من ذلك : أن قلوب هؤلاء الكافرين وأسماعهم قد ختم الله عليها فلا ينفذ إليها إيمان أو يقين ، وبذلك فإن هؤلاء سيؤول الأمر بهم إلى النار وبئس القرار .

وثمة مسألة تختلف فيها أقوال العلماء والمفسرين ، وهي مسألة قد تصل إلى حد الإشكال الذي يثير جملة تأويلات وآراء ، وهي : لمن يعود التأثير على القلوب والأسماع ليقع عليها الختم أو الطبع أو الإغلاق ؟ هل يعود ذلك لله عز وجل ليكون سبحانه هو المؤثر في عملية الطبع على القلب والسمع للإنسان فلا يؤمن بحق ولا يستمع إلى كلمة الحق ، أم أن ذلك يعود إلى الإنسان نفسه ، فهو المختار المريد الذي يسلك سبيلا في الخير أو الشر وهو في ذلك حر ؟ .

أمام هذين القولين المختلفين أجدني أكثر اطمئنانا وقناعة أن أتصور أن معنى الختم أو الطبع على قلب الإنسان وسمعه قد ورد على سبيل الإخبار بعدم الإيمان وليس على سبيل القهر والإلزام أو على سبيل الخلق المحتوم .

وبعبارة أخرى ، فإن الله جلت قدرته عالم علما أزليا بما هو كائن وما سيكون في الكون أو الطبيعة أو الإنسان ، فإن ذلك كله مشمول بعلم الله ، وهو علم أزلي غامر يحيط بالوجود جميعا من غير أن يند عنه شيء ، فهو سبحانه عالم بأفعال الإنسان سواء ما كان منها خيرا أو ما كان شرا ، فإنها تقع بإرادة الإنسان وهو في ذلك مخول قدرا من حرية الاختيار .

وخلاصة القول في هذه المسألة : أن الختم الواقع على قلوب الكافرين وأسماعهم والواردة في هذه الآية قد جاء على سبيل الإخبار من الله أن هذا الصنف من البشر لن يختار طريق الهداية والإيمان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

أما القلوب فمفردها القلب ، وقد سمي بذلك لأنه ينقلب من حال إلى أخرى ، فهو بذلك قلب أي سريع التقلب من حيث استيعابه لمزيد من الإيمان واليقين أو سرعة افتقاده لشحنة من زاد الإيمان والتقوى ، وشأن القلب وفي مثل هذه المسألة أنك تراه اهتدى واستقام أو استكثر زادا قد تقلب فانتقل عن صراط الحق والإيمان فيما يؤول إلى تدهور خطير سريع يؤثر في السلوك والأعمال لتكون فاسدة ، ويؤيد هذا المعنى حديث' الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ يقول : « مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة  » ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ليثبت فؤاده على الإيمان قائلا : " اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك  " .

ويقول الشاعر :

ما شمي القلب إلا من تقلبه *** فاحذر على القلب من قلب وتحويل

أما عن القلب من حيث كيفيته وحقيقته والمقصود به ، إن كان هو الموجود في صدر الإنسان على هيئة حبة الكمثرى فيكون بذلك جزءا من البدن ماديا ، أو غير ذلك مما هو اعتباري الكينونة وعلى نحو غير مادي ولا محس . . .

ولعل الفهم السليم لهذه المسألة أن نتصور المقصود من القلب على شاكلته المرئية في الصدر وأن هذه الشاكلة لهي ذات علاقة أساسية وجوهرية بطبيعة التكوين النفسي والروحي للإنسان ، إلا أن طبيعة هذه العلاقة أو كيفيتها غير معروفة للإنسان تماما ، وكل الذي يمكن الوقوف عليه أن قلب الإنسان لهو جماع الخير أو الشر فيه ( الإنسان ) وأنه جهاز تكويني بالغ التأثير والفعالية في سلوك الإنسان وتصرفاته القولية والفعلية جميعا ، وأنه لا يمكن إسقاط القيمة للصورة المادية للقلب وهو على هيئته من قطعة اللحم ، وأن طبيعة العلاقة بين هذه القطعة المحسة والحوافز المعنوية والروحية غير مدركة إدراكا مستبينا .

أمام عن وجود القلب في الإنسان وفي الصدر على وجه الخصوص فقد قال الله في القرآن عن ذلك : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( .

وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .

وقوله : ( وعلى سمعهم ( أي أن الختم طبع على أسماع هؤلاء الكافرين الذين لا يعون قولا كريما ولا يملكون أن يسمعوا نصحا .

أما إفراده للسمع مع أنه جمع القلوب فسبب ذلك أن السمع في الآية قد ورد على صيغة المصدر من الفعل " سمع " فكأنه يقول : إن الختم قد وقع على سماع هؤلاء الكافرين ، وليس المقصود هنا أداة الاستماع وهي الأذن ، وقيل غير ذلك .

قوله : ( وعلى أبصارهم غشاوة ( الواو للاستئناف ، فالجملة هنا مستأنفة بحيث لا ترتبط من حيث الختم مع ما قبلها من القلوب والأسماع ، وبذلك فإن الوقوف على قوله ( سمعهم ( مطلوب ، ومن المستبعد المرجوح أن تكون الواو هنا عاطفة على ما قبلها فيكون الختم واقعا على الأبصار مع الأسماع والقلوب ، ومعلوم أن الختم إنما يقع على القلوب والأسماع ولا يصلح أن يقع على الأبصار التي لا يناسبها غير الغشاوة وهو الغطاء ، يؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ( وبذلك فإن البصر تقع عليه الغشاوة ليستقيم المعنى ، وغير ذلك لا يتفق والمعنى أو السياق .

ومما يلاحظ لدى تدبر الآية أن المذكورات الثلاثة ، وهي : القلوب والسمع والأبصار قد وردت مرتبة بحسب الحظ من الأهمية ، فأشد هذه المذكورات أهمية هو القلب ثم السمع وأخيرا يأتي البصر ، ولا غرابة أن يرد ذكر القلوب في الطليعة من الاهتمام والأهمية ، لأن القلب لهو مناط التأثير والفعالية ، ومبعث التنشيط والعزم ، وموئل التوجه والسلوك في الإنسان سواء كان ذلك صوب الخير أو الشر .

أمام السمع فلا جرم أن يكون أشد أهمية وتأثيرا في الإنسان من البصر ، وذلك من حيث العواقب والسلبيات التي تترتب على افتقاد كل من الطرفين ، والحقيقة التي لا شك فيها أن افتقاد الإنسان للسمع سوف يكون سببا لحرمان كبير يحيق بشخصه وذلك من الناحية العقلية والنفسية والروحية ، وغير ذلك من النواحي التي تنشىء الشخصية المنسجمة المتسقة للإنسان .

فإن الملاحظ أن السمع في الإنسان لهو سبب لخصائل عظيمة شتى منها سماع العلم بضروبه المتعددة ، والاستماع بتدبير للنصيحة النافعة التي يكتسب المرء عن طريقهما ظواهر في الاعتدال والاستقامة أو في الارتداع عن كل مظاهر الإثم والضرر .

ويأتي في طليعة المعطيات الخيرة لخاصية السمع للإنسان أنه يستطيع بوساطتها الاستماع الى القرآن الكريم ، وذلك أمر هائل وبالغ الجلال ، لما ينطوي عليه من كبير المعاني والمؤثرات التي تلج الكينونة البشرية وهي تتعامل مع كلمات الله في قرآنه الرائع المعجز .

أمام البصر فإن انعدامه لا يفقد شيئا من هاتيك المعطيات التي لا تتحصل إلا بالجهاز السمعي ، فالأعمى الذي يكون عاقلا يستطيع أن يستفيد بنفس القدر الذي يفيده المبصر ، فهو الأعمى يستمع باهتمام ورهافة لكل ضروب الخير القولية والفعلية التي تطرح أمامه وهو يستمع إليها استماعا .

وقوله : ( ولهم عذاب عظيم ( العذاب من الفعل عذب أي منع وحبس ، واستعذب بمعنى امتنع عن فعل الشيء أو انصرف عنه ، ونقول : أعذبه عن الأمر أي منعه منه أو حبسه عنه ، وبذلك فالعذاب معناه في اللغة : ما شق على الإنسان ومنعه من تحصيل ما يريد ، وبناء على هذا فإن العذاب الوارد في الآية معناه أن الإنسان العاصي يحبس عنه الخير ليحل عليه بدلا منه ما يضاده من ألوان الشر والضر والبلاء ، وذلك ما أعده الله لأولئك الكفرة المتمردين الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة .