اعلم أنه - تعالى - لما بيَّن في الآية الأولى أنَّهُمْ لا يؤمنون أخبر في هذه الآية السَّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم .
واعلم أن الختم والكَتْم أخوان وهو : الاشتياق بالشَّيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية ؛ لئلا يتوصّل إليه ، ومنه : الخَتْم على الباب .
" على قلوبهم " متعلّقة ب " ختم " ، و " على سمعهم " يحتمل عطفه على " قلوبهم " ، وهو الظاهر ، للتصريح بذلك ، أعني : نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ } [ الجاثية : 23 ] ويحتمل أن يكون خبراً مقدماً ، وما بعده عطف عليه .
و " غشاوة " مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خَبرُها ظرفاً ، أو حرف جر تاماً ، وقدم عليها جاز الابتداء بها ، [ ويكون تقديم الخبر حينئذ واجباً ؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة ]{[609]} ، والآية من هذا القبيل ، وهذا بخلاف قوله تعالى : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] ؛ ويبتدأ بما بعده ، وهو " وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ " ف " على أبصارهم " خبر مقدم ، و " غِشَاوة " مبتدأ مؤخر .
وعلى الاحتمال الثاني يوقف على " قلوبهم " ، وإنما كرر حرف الجر ؛ ليفيد التأكيد ويشعر ذلك بتَغَايُرِ الختمين ، وهو : أن ختم القلوب غير ختم الأسماع .
وقد فرق النحويون بين " مررت بزيد وعمرو " وبين " مررت بزيد وبعمرو " فقالوا في الأول هو ممرور واحد ، وفي الثاني هما ممروران ، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين ، أعني : جعل " وعلى سمعهم " معطوفاً على قوله : " على قلوبهم " ، وجعله خبراً مقدماً .
وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول ، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يُشعر بتغاير الغِشَاوتين ، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على البَصَرِ ، كما تقدم ذلك في الختمين .
وقرئ{[610]} : غِشَاوة بالكسر والنصب ، وبالفتح والنصب وبالضَّم والرفع ، وبالكسر والرفع - و " غشوة " بالفتح والرفع والنصب - و " عشاوة " بالعين المهملة ، والرفع من العَشَا .
الأول : على إضمار فعل لائق ، أي : وجعل على أبصارهم غِشَاوة ، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى : { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] .
والثاني : الانتصاب على إسقاط حرف الجر ، ويكون " على أَبْصَارهم " معطوفاً على ما قبله ، والتقدير : ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم بغشاوة ، ثم حذف الجر ، فانتصب ما بعده ؛ كقوله : [ الوافر ]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا *** كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ{[611]}
أي : تمرون بالدِّيَار ، ولكنه غير مقيس .
والثالث : أن يكون " غشاوة " اسماً وضع موضع المصدر الملاقي ل " خَتَمَ " في المعنى ؛ لأن الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر ، فكأنه قيل : " وختم تغشية " على سبيل التأكيد ، فهو من باب " قعدت جلوساً " ، وتكون " قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة " .
وقال الفَارِسِيّ : قراءة الرفع الأولى ، لأن النَّصب إما أن تحمله على ختم الظاهر ، فَيَعْرِضُ من ذلك أنك حُلْتَ بين حرف العطف والمعطوف به ، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وإما أن تحمله على فعل يدلّ عليه " ختم " ، تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، فهذا الكلام من باب : [ الكامل ]
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا *** مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحا{[612]}
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً *** حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا{[613]}
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سَعَةٍ ، ولا اختيار .
واستشكل بعضهم هذه العبارة ، وقال : لا أدري ما معنى قوله ؛ لأن النصب إما أن تحمله على " خَتَم " الظاهر ، وكيف تحمل " غشاوة " المنصوب على " ختم " الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه ؟
قال : اللّهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى : " ختم الله على قلوبهم " دعاء عليهم لا خَبَر ، ويكون " غشاوة " في معنى المصدرية المَدْعُو به عليهم القائم مقام الفعل ، فكأنه قيل : وغَشَّى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على " ختم " عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء ، نحو : " رحم الله زيداً وسُقياً له " فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين " غشاوة " المعطوف وبين " خَتَمَ " المعطوف عليه بالجار والمجرور . وهو تأويل حسن ، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً ؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرف ، فتحرير التأويل أن يقال : فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور .
والقراءة المشهورة بالكسر ؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبداً على هذه الزِّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة .
والغِشَاوة فِعَالة : الغطاء من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء ، ومنه غشي عليه ، وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع .
و " القلب " أصله المصدر ، فسمي به هذا العضو الصَّنَوْبَرِي ؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه ، ولهذا قال : [ البسيط ]
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ *** فَاحْذَرْ عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ{[614]}
ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقاً بينه وبين أصله ، وكثيراً ما يراد به العقل ويطلق أيضاً على لُبّ كل شيء وخالصه .
و " السمع " و " السماع " مصدران ل " سمع " ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع ؛ قال : [ البسيط ]
وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ *** بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعِهِ كَذِبُ{[615]}
أي : ما في استماعه . و " السِّمْع " - بالكسر - الذِّكْر بالجميل ، وهو - أيضاً - ولد الذئب من الضَّبُع ، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده ؛ لأنه مصدر حقيقة ، يقال : رَجُلان صَوْم ، ورجال صوم ، ولأنه على حذف مضاف ، أي : مواضع سمعهم ، أو حواس سمعهم ، أو يكون كني به عن الأُذُن ، وإنما وحَّده لفهم المعنى ؛ كقوله [ الوافر ]
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا *** فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ{[616]}
ومثله قال سيبويه : " إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر ما قبله وما بعده بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع " .
ومنه أيضاً قال تَعَالى : { يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ } [ ق : 17 ] ؛ قال الراعي .
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا *** فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ{[617]}
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ{[618]} : " أسماعهم " .
قال الزمخشري : واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم ، وفي حكم التَّغْشِيَةِ ، إلاّ أن الأولى دخولها في حكم الختم ؛ لقوله تعالى : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] .
و " الأبصار " : جمع بصر ، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات .
قالوا : وليس بمصدر لجمعه ، ولقائل أن يقول : جمعه لا يمنع كونه مصدراً في الأصل ، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به نور العين ، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية ، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب .
وقد قلتم : إنه في الأصل مصدر ثم سمي به ، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن ، كما كني بالسمع عن الأذن ، وإن كان السَّمع في الأصل مصدراً كما تقدم .
وقرأ أبو عمرو والكِسَائي{[619]} : " أبصارهم " بالإِمَالَةِ ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها .
ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء " كالقرار " ونحوه ، وزاد الكسائي إمالة { جَبَّارِينَ } [ المائدة : 22 ] ، و{ الْجَوَارِ } [ الشورى : 32 ] ، و{ بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، و { مَنْ أَنصَارِي } [ آل عمران : 52 ] ، و{ نُسَارِعُ } [ المؤمنون : 56 ] وبابه ، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعْل ، أو كانت علماً للتأنيث مثل : { الْكُبْرَى } [ طه : 23 ] ، و{ الأُخْرَى } [ الزمر : 42 ] ، ولام الفعل مثل : { يَرَى } [ البقرة : 165 ] ، و{ افْتَرَى } [ آل عمران : 94 ] يكسرون الراء منها .
و " الغشاوة " : الغطاء . قال : [ الطويل ]
تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ *** فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا{[620]}
هَلاَّ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسبِي *** إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا{[621]}
وجمعها " غِشاءٌ " ، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة .
وقيل : " غشاوي " مثل " أداوي " .
قال الفارسي : لم أسمع من " الغشاوة " فعلاً متصرفاً ب " الواو " ، وإذا لم يوجد ذلك ، وكان معناها معنى ما " اللام " منه " الياء " ، وهو غشي بدليل قولهم : " الْغِشْيَان " ، و " الغشاوة " من غشي ك " الجِبَاوة " من جبيت في أن " الواو " كأنها بدل من " الياء " ، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة . وظاهر عبارته أن " الواو " بدل من " الياء " ، و " الياء " أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة " الواو " .
والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين " غ ش و " ، و " غ ش ي " ، ثم تصرفوا في إحدى المادتين ، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى ، وهذا أقرب من ادعاء قلب " الواو " " ياء " من غير سبب ، وأيضاً " الياء " أخف من " الواو " ، فكيف يقلبون الأخف للأثقل ؟
و " لهم " خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف ، و " عذاب " مبتدأ مؤخر ، و " عظيم " صفة . والخبر - هنا - جائز التقديم ؛ لأن للمبتدأ مسوغاً وهو وصفه ونظيره : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] من حيث الجواز .
والعذاب في الأَصْلِ : الاستمرار ، ثم سمي به كلّ استمرار أَلَمٍ .
وقيل : أصله : المَنْع ، وهذا هو الظَّاهر ، ومنه قيل للماء : عَذَب ؛ لأنه يمنع العطش ، والعذاب يمنع من الجريمة .
" عظيم " اسم فاعل من " عَظُمَ " ، نحو : كريم من " كَرُم " غير مذهوب به مذهب الزمان ، وأصله أن توصف به الأجرام ، ثم قد توصف به المعاني .
وهل هو و " الكبير " بمعنى واحد أو هو فوق " الكبير " ؛ لأن العظيم يقابل الحقير ، والكبير يقابل الصغير ، والحقير دون الصغير ؟ قولان .
و " فعيل " له معانٍ كثيرة ، يكون اسماً وصفة ، والاسم مفرد وجمع ، والمفرد اسم معنى ، واسم عين ، نحو : " قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب " .
والصفة مفرد " فُعَلَة " ك " غَزِي " يجمع على " غُزَاة " ومفرد " فَعَلَة " ك " سَرِي " يجمع على " سَرَاة " .
ويكون اسم فاعل من " فَعُلَ " نحو : عظيم من عَظُم كما تقدم .
ومبالغةً في " فَاعِل " ، نحو " عليم من عالم " .
وبمعنى " أَفْعَل " ك " شميط " بمعنى : " أشمط " ، و " مَفْعُول " ك " جريح " بمعنى : مجروح ، و " مُفْعِل " ك " سَمِيع " بمعنى : " مُسْمِع " ، و " مُفْعَل " ، ك " وَلِيْد " بمعنى : مُولَد ، و " مُفَاعِل " ، ك " جَلِيس " بمعنى : مُجَالِس ، و " مُفْعَل " ، ك " بَدِيع " بمعنى : مُبْتَدِع ، و " مُتَفَعِّل " ك : " سَعِيْر " بمعنى : " مُتَسَعِّر " ، و " مُسْتَفْعِل " ك " مَكِين " بمعنى : " مُسْتَمْكن " .
و " فَعْل " ك " رطيب " بمعنى : " رَطْب " ، و " فَعَل " ك " عجيب " بمعنى : " عجب " و " فِعَال " ك " صحيح " بمعنى : صِحَاح ، وبمعنى : " الفاعل والمفعول " ك " صريخ " بمعنى : " صارخ ومصروخ " .
وبمعنى الواحد والجمع نحو : " خليط " ، وجمع فاعل ك " غريب " جمع غارب .
فصل في أيهما أفضل : السمع أو البصر ؟
من الناس من قال : السَّمع أفضل من البَصَرِ ؛ لأن الله - تعالى - حيث ذكرهما قدم السَّمع على البصر ، والتقديم دليلٌ على التفضيل ، ولأنّ السمع شرط النّبوة بخلاف البَصَرِ ، ولذلك ما بعث الله رسولاً أَصَمّ ، وقد كان فيهم الأعمى ، ولأنَّ بالسَّمع تصلُ نتائج عقول البعض إلَى البعض ، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العَقْلِ بالمعارف ، والبَصَر لا يوقفك إلا على المحسوسات ، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البَصَرِ ، ولأنّ السمع متى بطل فقد بطل النُّطق ، والبصر إذا بطل لم يبطل النُّطق .
ومنهم من قدم البصر ؛ لأنّ آلة القوة الباصرة أشرف ، ولأن متعلّق القوة الباصرة هو النور ، ومتعلّق القوة السَّامعة هو الريح .
الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الخَتْم هي " الطَّبع " و " الكنان " و " الرين " على القلب ، و " الوقر " في الأذن ، و " الغشاوة " في البصر .
واختلف الناس في هذا الخَتْم : فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ، ثم لهم قولان :
منهم من قال : الختم هو خلق الكُفْر في قلوب الكفار .
ومنهم من قال هو خلق الدَّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكُفْر .
وأما المعتزلة فأوّلوا هذه الآية ، ولم يجروها على ظاهرها .
أما قوله تعالى : { لهم عذاب عظيم } أي : في الآخرة .
وقيل : الأَسْر والقَتْل في الدنيا ، والعذاب الدائم في العُقْبَى .
و " العذاب " مشتق من " العَذْب " وهو القَطْع ، ومنه سمي الماء الفرات عَذْباً ، لأنه يقطع العطش .