غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (7)

6

السادسة : الختم والكتم أخوان ، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه . والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة . والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين ، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب }

[ ق : 37 ] . وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] . كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك { ألا له الخلق والأمر }

[ الأعراف : 54 ] . وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 7 ، 8 ] وبالروح { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطاً بعنف يحدث منه تموّج فاعل للصوت ، فيتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا . ولعل هذا في الشاهد فقط ، وأما البصر فقال ابن سينا : هي قوة مرتبة في العصبة ا لمجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية . وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار . وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعاً . والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة غلى القلب ، ولكل من العين والقلب نور . أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق ، فهو نور جزئي ومدركه جزئي ، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر ، وهو نور كلي ومدركه كلي . وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور ، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه . ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه ، أو يدركه أصغر مما هو عليه . ولا يلزم من قولنا " إن للبصر نوراً يقع في المرئي " أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياساً على أنوار الكواكب والسرج ، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات ، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم . وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كافٍ بحسب المقام . ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية ، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } [ الجاثية : 23 ] ولهذا يوقف على " سمعهم " دون " قلوبهم " . وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع ، وإنما وحد السمع لوجوه منها : أمن اللبس كما في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . فإن زمانكم زمن خميص . إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطناً ، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه . ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل ، ولهذا جمع الأذن في قوله

{ وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] . ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم ، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل

{ عن اليمين والشمائل } [ النحل : 48 ] { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] .

السابعة : من الناس من قال : السمع أفضل من البصر ، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة . فما بعث رسول أصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى ، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم ، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر . ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر ، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق ، بخلاف فاقد البصر . ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور ، ومتعلق الأسماع الريح . والبصر يرى من بعيد دون السمع ، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع . وقد أسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في الرؤية وفي المثل " ليس وراء العيان بيان " . وفي العين جمال الوجه دون السمع . والحق أن من فقد حساً فقد فقد علماً وهو المتوقف على ذلك الحس . ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد ، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع . فكل من الحواس في موضعه ضروري ، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل ، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه .

الثامنة : الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون ، والإنذار وعدمه عليهم سيان . والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية ، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق ، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق ، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل . وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون : كيف ينشئ فيهم الكفر ثم يقول : لم تكفرون ؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل ؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته . فتأولوا الآية على انها جارية مجرى قولهم " فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه " يريدون أنه بليغ في الثبات عليه ، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئاً ولا تفقه كقولهم " سال به الوادي " إذا هلك ، و " طارت به العنقاء " إذا أطال الغيبة . وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء ، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر . إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم " بنى الأمير المدينة " أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف ، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم . أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً بهم من قولهم { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال : لا ، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة . وسئل عن أهل الجبر فقال : لا ، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد . وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد على الفعل فأيّ فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب ؟ أو نقول : لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح ، وهذا يقتضي الجبر . ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية ، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال . قلت -وبالله تعالى التوفيق- : عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لوحظت المبادئ ورتبت المقدمات ، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادراً على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل . فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشر ، والنفع والضر ، وسائر المتقابلات ، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته . والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى { ولو شاء لهداكم أجمعين } [ النحل : 9 ] { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } [ السجدة : 13 ] { قل كل من عند الله } [ النساء : 78 ] كثيرة . وكذا الأحاديث " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس " " احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى " الحديث . فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل ، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف . أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول : لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح ، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك . بل الوجه أن يقال : إن لله تعالى صفتي لطف وقهر ، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك . ولاسيما ملك الملوك ، كذلك ، إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ، ومن منع ذلك كابر وعاند . ولابد لكل من الوصفين من مظهر ، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر ، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها ، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها . وههنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر ، فلولا القهر لم يتحقق اللطف ، ولولا النار لم تثبت الجنة ، كما أنه لولا الألم لم تتبين اللذة ، ولولا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري . ولله در القائل : " وبضدها تتبين الأشياء " . فخلق الله تعالى للجنة خلقاً يعملون بعمل أهل الجنة ، وللنار خلقاً يعملون بعمل أهل النار . ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله . وههنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] الآية : وقال صلى الله عليه وسلم : " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات ، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد " الحديث . وإذا تؤمل فيما قلت ، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى ، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح ، ولاسيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين . وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيراً قريباً وبعضهم كناساً بعيداً لأن كلاً منهما من ضرورات المملكة ، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به ، مع أن كلاً منهم ضروري في مقامه ؟ ! فهذا القائل بهدم بناء حكمته ، تعالى ، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح . وأما قوله " أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب " ففي غاية السخافة ، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فكيف يبقى للمعترض أن يقول : لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سبباً وواسطة للشيء الفلاني ؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلاً لم جعل الشمس سبباً لإنارة الأرض ؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأقول : فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سبباً وواسطة لاهتدائهم { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح . وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 125 ] غاية ذلك إلزام الحجة وإقامة البنية عليهم ظاهراً { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً } [ القصص : 47 ] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء . وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضاً لغاية نقصانهم كما أن الأكمة ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه ، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار . وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلاً فأقول : لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي ، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى ، فكأنه لا اختيار له . والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية ، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل ، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذراً من التطويل . ومن لم يستضئ بمصباح لا يستفيد بإصباح { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] .

التاسعة : العذاب مثل النكال ؛ بناء ومعنى ، لأنك تقول : أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول : نكل عنه . ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده . ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة . والفرق بين العظيم والكبير ، أن العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعاً . تقول : رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره . ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله . ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه .

العاشرة : اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار . وقال بعضهم : لا يحسن ، وفسروا قوله { ولهم عذاب عظيم } وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك ، لكن كرمه يوجب عليه العفو . وذكروا أيضاً دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم : التعذيب ضرر خالٍ عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به ، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب ، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة . وكقولهم : علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان ، فتكليفه أمراً متى لم يفعل ترتب عليه العذاب ، وما كان مستعقباً للضرر من غير نفع كان قبيحاً ، فلم يبق إلا أن يقال : لم يوجد هذا التكليف ، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب .

وكقولهم : إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية ، فيقبح أن يعاقب عليها . وكقولهم : إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه . أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم ، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم ؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال :

{ ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله

{ اخسئوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مصير إلى إنكاره ، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح . وأقول : قد بينت بالبرهان النير في المسألة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى ، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسناً . ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه ، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها . وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجاناً وبعضها للحشوش جدراناً ، أو وقوع بعض من الحديد سيفاً يتقلده الناس وبعضه نعلاً يطؤها الأفراس ، حيث يرى كلاً منهما في مصالح الوجود ضرورياً ؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان ، والملزوم لا ينفك من اللازم . وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة ، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا ، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها . فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة . ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض : اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال : إني أشرب الآن ، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك ؟ وكذا لو قال ملك لواحد : افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلاً ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات ، ولاسيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب

{ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } [ غافر : 85 ] . صدق الله العظيم .