{ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } الختم : الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به .
القلب : مصدر قلب ، والقلب : اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر ، وكنى به في القرآن وغيره عن العقل ، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه .
السمع : مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكنى به في بعض المواضع عن الأذن .
البصر : نور العين ، وهو ما تدرك به المرئيات .
الغشاوة : الغطاء ، غشاه أي غطاه ، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث ، كما صححوا اشتقاقه ، قال أبو علي الفارسي : لم أسمع من الغشاوة فعلاً متصرفاً بالواو ، وإذا لم يوجد ذلك كان معناها معنى ما اللام منه الياء ، غشي يغشى بدلالة قولهم : الغشيان والغشاوة من غشي ، كالجباوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء إذا لم يصرف منه فعل ، كما لم يصرف من الجباوة ، انتهى كلامه .
العذاب : أصله الاستمرار ، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم ، واشتقوا منه فقالوا : عذبته ، أي داومت عليه الألم ، وقد جعل الناس بينه وبين العذاب : الذي هو الماء الحلو ، وبين عذب الفرس : استمر عطشه ، قدراً مشتركاً وهو الاستمرار ، وإن اختلف متعلق الاستمرار .
وقال الخليل : أصله المنع ، يقال عذب الفرس : امتنع من العلف .
عظيم : اسم فاعل من عظم غير مذهوب به مذهب الزمان ، وفعيل اسم ، وصفة الاسم مفرد نحو : قميص ، وجمع نحو : كليب ، ومعنى نحو : صهيل ، والصفة مفرد فعله كقرى ، وفعله كسرى ، واسم فاعل من فعل ككريم ، وللمبالغة من فاعل كعليم ، وبمعنى أفعل كشميط ، وبمعنى مفعول كجريح ، ومفعل كسميع وأليم ، وتفعل كوكيد ، ومفاعل كجليس ، ومفتعل كسعير ، ومستفعل كمكين ، وفعل كرطيب ، وفعل كعجيب ، وفعال كصحيح ، وبمعنى الفاعل والمفعول كصريح ، وبمعنى الواحد والجمع كخليط وجمع فاعل كغريب .
وظاهر قوله تعالى : { ختم الله } أنه إخبار من الله تعالى بختمه وحمله بعضهم على أنه دعاء عليهم ، وكنى بالختم على القلوب عن كونها لا تقبل شيئاً من الحق ولا تعيه لإعراضها عنه ، فاستعار الشيء المحسوس والشيء المعقول ، أو مثل القلب بالوعاء الذي ختم عليه صوناً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه .
والأول : مجاز الاستعارة ، والثاني : مجاز التمثيل .
ونقل عمن مضى أن الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه ، قال مجاهد : إذا أذنبت ضم من القلب هكذا ، وضم مجاهد الخنصر ، ثم إذا أذنبت ضم هكذا ، وضم البنصر ، ثم هكذا إلى الإبهام ، وهذا هو الختم والطبع والرين .
وقيل : الختم سمة تكون فيهم تعرفهم الملائكة بها من المؤمنين .
وقيل : حفظ ما في قلوبهم من الكفر ليجازيهم .
وقيل : الشهادة على قلوبهم بما فيها من الكفر ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح ، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي ، إذ الله تعالى خالق كل شيء .
وقد تأول الزمخشري وغيره من المعتزلة هذا الإسناد ، إذ مذهبهم أن الله تعالى لا يخلق الكفر ولا يمنع من قبول الحق والوصول إليه ، إذ ذاك قبيح والله تعالى يتعالى عن فعل القبيح ، وذكر أنواعاً من التأويل عشرة ، ملخصها : الأول : أن الختم كنى به عن الوصف الذي صار كالخلقي وكأنهم جبلوا عليه وصار كأن الله هو الذي فعل بهم ذلك .
الثاني : أنه من باب التمثيل كقولهم : طارت به العنقاء ، إذا أطال الغيبة ، وكأنهم مثلت حال قلوبهم بحال قلوب ختم الله عليها .
الثالث : أنه نسبه إلى السبب لما كان الله هو الذي أقدر الشيطان ومكنه أسند إليه الختم .
الرابع : أنهم لما كانوا مقطوعاً بهم أنهم لا يؤمنون طوعاً ولم يبق طريق إيمانهم إلا بإلجاء وقسر وترك القسر عبر عن تركه بالختم .
الخامس : أن يكون حكاية لما يقوله الكفار تهكماً كقولهم : { قلوبنا في أكنة } .
السادس : أن الختم منه على قلوبهم هو الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون .
السابع : أنها في قوم مخصوصين فعل ذلك بهم في الدنيا عقاباً عاجلاً ، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا .
الثامن : أن يكون ذلك فعله بهم من غير أن يحول بينهم وبين الإيمان لضيق صدورهم عقوبة غير مانعة من الإيمان .
التاسع : أن يفعل بهم ذلك في الآخرة لقوله تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } العاشر : ما حكى عن الحسن البصري ، وهو اختيار أبي علي الجبائي ، والقاضي ، أن ذلك سمة وعلامة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر وسمعه ، تستدل بذلك الملائكة على أنهم كفار وأنهم لا يؤمنون .
والمسألة يبحث عنها في أصول الدين .
وقد وقع قوله : { وعلى سمعهم } بين شيئين : يمكن أن يكون السمع محكوماً عليه مع كل واحد منهما ، إذ يحتمل أن يكون أشرك في الختم بينه وبين القلوب ، ويحتمل أن يكون أشرك في الغشاوة بينه وبين الأبصار .
لكن حمله على الأول أولى للتصريح بذلك في قوله : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } وتكرير حرف الجر يدل على أن الختم ختمان ، أو على التوكيد ، إن كان الختم واحداً فيكون أدل على شدة الختم .
وقرأ ابن أبي عبلة أسماعهم فطابق في الجمع بين القلوب والأسماع والأبصار .
وأما الجمهور فقرؤوا على التوحيد ، إما لكونه مصدراً في الأصل فلمح فيه الأصل ، وإما اكتفاء بالمفرد عن الجمع لأن ما قبله وما بعده يدل على أنه أريد به الجمع ، وإما لكونه مصدراً حقيقة وحذف ما أضيف إليه لدلالة المعنى أي حواس سمعهم .
وقد اختلف الناس في أي الحاستين السمع والبصر أفضل ، وهو اختلاف لا يجدي كبير شيء .
والإمالة في أبصارهم جائزة ، وقد قرئ بها ، وقد غلبت الراء المكسورة حرف الاستعلاء ، إذ لولاها لما جازت الإمالة ، وهذا بتمامه مذكور في النحو .
وقرأ الجمهور : غشاوة بكسر الغين ورفع التاء ، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين : إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية ، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث ، والاسمية تدل على الثبوت .
وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه ، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به .
وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد ، وهو منعهم من الإيمان ، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله : { وجعل على بصره غشاوة } ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة ، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر ، أي بغشاوة ، وهو ضعيف .
ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم ، لأن معنى ختم غشي وستر ، كأنه قيل تغشيه على سبيل التأكيد ، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة .
وقال أبو علي : وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به ، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر ، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب :
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار ، فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة .
انتهى كلام أبي علي ، رحمه الله تعالى .
ولا أدري ما معنى قوله : لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر ، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على ختم الذي هو فعل ؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } دعاء عليهم لا خبراً ، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله ، ويكون غشاة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل : وغشى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء ، نحو قولك : رحم الله زيداً وسقياً له ، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور .
وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع ، وقرأ الحسن باختلاف عنه وزيد بن علي : غشاوة بضم الغين ورفع التاء ، وأصحاب عبد الله بالفتح والنصب وسكون الشين ، وعبيد بن عمير كذلك ، إلا أنه رفع التاء .
وقرأ بعضهم غشوة بالكسر والرفع ، وبعضهم غشوة وهي قراءة أبي حيوة ، والأعمش قرأ بالفتح والرفع والنصب .
وقال الثوري : كان أصحاب عبد الله يقرأونها غشية بفتح الغين والياء والرفع .
وقال يعقوب : غشوة بالضم لغة ، ولم يؤثرها عن أحد من القراءة .
قال بعض المفسرين : وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن عمامة ، والأشياء التي هي أبداً مشتملة ، فهذا يجيء وزنها : كالصمامة ، والعمامة ، والعصابة ، والريانة ، وغير ذلك .
وقرأ بعضهم : غشاوة بالعين المهملة المكسورة والرفع من العشي ، وهو شبه العمى في العين .
وتقديم القلوب على السمع من باب التقديم بالشرف وتقديم الجملة التي انتظمتها على الجملة التي تضمنت الأبصار من هذا الباب أيضاً .
وذكر أهل البيان أن التقديم يكون باعتبارات خمسة : تقدم العلة والسبب على المعلول والمسبب ، كتقديم الأموال على الأولاد في قوله تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فإنه إنما يشرع في النكاح عند قدرته على المؤنة ، فهي سبب إلى التزوج ، والنكاح سبب للتناسل .
والعلة : كتقدم المضيء على الضوء ، وليس تقدم زمان ، لأن جرم الشمس لا ينفك عن الضوء .
وتقدم بالذات ، كالواحد مع الاثنين ، وليس الواحد علة للاثنين بخلاف القسم الأول .
وتقدم بالشرف ، كتقدم الإمام على المأموم .
وتقدم بالزمان ، كتقدم الوالد على الولد بالوجود ، وزاد بعضهم سادس وهو : التقدم بالوجود حيث لا زمان .
ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ، أخبر بما يؤول إليه أمرهم في الآخرة من العذاب العظيم .
ولما كان قد أعد لهم العذاب صير كأنه ملك لهم لازم ، والعظيم هو الكبير .
وقيل : العظيم فوق ، لأن الكبير يقابله الصغير ، والعظيم يقابله الحقير .
قيل : والحقير دون الصغير ، وأصل العظم في الجثة ثم يستعمل في المعنى ، وعظم العذاب بالنسبة لي عذاب دونه يتخلله فتور ، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين أحدهما شبع من الآخر ، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد .
وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى : { إن الذين كفروا } إلى قوله : { عظيم } ، أقوالاً : أحدها : أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة ، قاله ابن عباس ، وكان يسميهم .
الثاني : نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش ، قاله أبو العالية .
الثالث : في أبي جهل وخمسة من أهل بيته ، قاله الضحاك .
الرابع : في أصحاب القليب : وهم أبو جهل ، وشيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة .
الخامس : في مشركي العرب قريش وغيرها .
السادس : في المنافقين ، فإن كانت نزلت في ناس بأعيانهم وافوا على الكفر ، فالذين كفروا معهودون ، وإن كانت لا في ناس مخصوصين وافوا على الكفر ، فيكون عاماً مخصوصاً .
ألا ترى أنه قد أسلم من مشركي قريش وغيرها ومن المنافقين ومن اليهود خلق كثير بعد نزول هاتين الآيتين ؟ .