المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (44)

ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً وهو الصحن من غير سقف وجعلته مبنياً كالصهريج وملىء ماء وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف ، وبهذا جاء صرحاً ، و { الصرح } أيضاً كل بناء عال ، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي ، فلما وصلت إليه بلقيس { قيل لها ادخلي } إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأت اللجة وفزعت وظنت أنها قصد بها الغرق وعجبت من كون كرسيه على الماء ورأت ما هالها ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ف » كشفت «عن ساقيها » ، فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر ، فلما بلغا هذا الحد ، قال لها سليمان { إنه صرح ممرد من قوارير } ، و «الممرد » المحكوك المملس ، ومنه الأمرد والشجرة المرداء التي لا ورق عليها والممرد أيضاً المطول ، ومنه قيل للحصن مارد{[9029]} ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ، فروي أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام قاله الضحاك ، وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش تزوجها وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل يوم مرة ، فولدت له غلاماً سماه داوود مات في حياته ، و { مع } ظرف ، وقيل حرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى{[9030]} وقرأ ابن كثير وحده في رواية أبي الأخربط «عن سأقيها » بالهمز قال أبو علي وهي ضعيفة وكذلك يضعف الهمز في قراءة قنبل «يكشف عن سأق »{[9031]} فأما همز السؤق{[9032]} وعلى سؤقه{[9033]} فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة حكى أبو علي أن أبا حيّة النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد «لب المؤقدان إلى موسى »{[9034]} ووجهها أن الضمة تقوم على الواو إذ لا حائل بينهما ، وقرأ ابن مسعود «عن رجليها » ، وروي أن سليمان عليه السلام لما أراد زوال شعر ساقيها أشفق من حمل الموسى عليها وقيل إنها قالت ما مسني حديد قط فأمر الجن بالتلطف في زواله . فصنعوا النورة{[9035]} ولم تكن قبل الأمم ، وهذه الأمور التي فعلها سليمان عليه السلام من سوق العرش وعمل الصرح وغير ذلك قصد بذلك معاياتها والإغراب عليها ، كما سلكت هي قبل سبيل ملوك الدنيا في ذلك بأن أرسلت الجواري والغلمان واقترحت في أمر القدح والذرتين .


[9029]:وقال أبو صالح: هو الطويل على هيئة النخلة، وقال ابن شجرة: ممرد: واسع في طوله وعرضه، قال الشاعر: غدوت صباحا باكرا فوجدتهم قبيل الضحى في السابري الممرد أي: الدروع الواسعة.
[9030]:قال أبو حيان في البحر: "والصحيح أنها ظرف فتحت العين أو سكنت، وليس التسكين مخصوصا بالشعر كما زعم بعضهم، بل ذلك لغة لبعض العرب، والظرفية فيها مجاز، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة".
[9031]:في الآية 42 من سورة القلم، وهي قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون}.
[9032]:من قوله تعالى في الآية 33 من سورة ص: {ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق}.
[9033]:من قوله تعالى في الآية 29 من سورة الفتح: {فاستغلظ فاستوى على سوقه}.
[9034]:هذا صدر بيت نسبه في اللسان لجرير والبيت بتمامه:أحب المؤقدان إليك مؤسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود ولم يذكر اللسان إلا الشطر الأول، قال: {وساق الشجرة: جذعها، وجمع ذلك أسوق وأسؤق.. توهموا ضمة السين على الواو، وقد غلب ذلك على لغة أبي حية النميري، وهمزها جرير في قوله: أحب المؤقدان إليك مؤسى. وروي: أحب المؤقدين، وعليه وجه أبو علي قراءة من قرأ: {عادا الأولى}. 1 هـ. واستشهد أبو عثمان ابن جني بهذا الشطر أيضا، والرواية فيه: لحب المؤقدان إلي مؤسى، وقال المحقق الكتاب في الهامش: وعجزه: وجعدة... الخ. ويعلل ابن جني الهمز في (مؤسى) تعليلا طويلا خلاصته أن العرب تقدر أن حركة المتحرك إذا جاور الساكن كأنها في الساكن، فكأن ضمة (موسى) في الواو، والواو إذا انضمت ضما لازما فهمزها جائز، تقول في (وجوه): أجوه، وعلى هذا جاء همز (مؤسى)، ثم ذكر الشاهد عن شيخه أبي علي.
[9035]:النورة: أخلاط من أملاح الكلسيوم والباريون تستعمل لإزالة الشعر (المعجم الوسيط- عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (44)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قيل لها ادخلي الصرح} وهو قصر من قوارير على الماء تحته السمك، {فلما رأته حسبته لجة} يعني: غدير الماء {وكشفت عن ساقيها} يعني: رجليها لتخوض الماء إلى سليمان، وهو على السرير في مقدم البيت... {قال إنه صرح ممرد} يعني: أملس {من قوارير} فلما رأت السرير والصرح علمت أن ملكها ليس بشيء عند ملك سليمان، وأن ملكه من ملك الله عز وجل. ف {قالت} حين دخلت الصرح {رب إني ظلمت نفسي} يعني: بعبادتها الشمس {وأسلمت} يعني: أخلصت {مع سليمان} بالتوحيد {لله رب العالمين}... وتابت إلى الله عز وجل من شركها.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ذُكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ تريده، أمر الشياطين فبنوا له صرحا، وهو كهيئة السطح من قوارير، وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك، وفهمها... ثم وضع له فيه سريره، فجلس عليه... ثم قال:"ادْخُلِي الصّرْحَ" ليريها مُلكا هو أعزّ من مُلكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها، "فَلَما رأَتْهُ حَسِبَتْهُ لّجةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها "لا تشكّ أنه ماء تخوضه، قيل لها: ادخلي إنه صرح ممرّد من قوارير، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس دون الله... فقالت: "رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانِ لله رَبّ العالَمِينَ" وأسلمت، فحسُن إسلامها.

وقوله: "فَلَما رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجةً" يقول: فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان... وقوله: "إنّهُ صَرْحٌ مُمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ" يقول جلّ ثناؤه: قال سليمان لها: إن هذا ليس ببحر، إنه صرح ممّرد من قوارير، يقول: إنما هو بناء مبنيّ مشيد من قوارير... وقوله: "قالَتْ رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ..." يقول تعالى ذكره: قالت المرأة صاحبة سبأ: ربّ إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس، وسجودي لما دونك "وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ" تقول: وانقدت مع سليمان مذعنة لله بالتوحيد، مفردة له بالألوهة والربوبية دون كلّ من سواه.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ثم حكى بأنه قيل لها "ادخلي الصرح "فالصرح هو الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف...وقيل: الصرح صحن الدار.. وقيل صرح القصر..

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{إنه صرح ممرد من قوارير}، و «الممرد» المحكوك المملس..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

... فلما رأت ما فضله الله به من العلم، المؤيد بالحكمة، المكمل بالوقار والسكينة، المتمم بالخوارق، بادرت إلى طاعته علماً بأنه رسول الله، فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله: {قالت} مقبلة على من آتاه، للاستمطار من فضله، والاستجداء من عظيم وبله: {رب} أي أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك {وأسلمت} أي ليظهر عليّ ثمرات الإسلام.

ولما ذكرت هذا الأساس الذي لا يصح بناء طاعة إلا عليه، أتبعته الداعي الذي لا تتم ثمرات الأعمال المؤسسة عليه إلا بحبه، والإذعان له، والانقياد والاعتراف بالفضل، وبهدايته إلى ما يصلح منها وما لا يصلح على الوجوه التي لا تقوم إلا بها من الكميات والكيفيات. فقالت: {مع سليمان}.

ولما ذكر صفة الربوبية الموجبة للعبادة بالإحسان، ذكرت الاسم الأعظم الدال على ذات المستجمع للصفات الموجبة للإلهية للذات فقالت: {لله} أي مقرة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية. ثم رجعت إشارة إلى العجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت: {رب العالمين*} فعمت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، فلله درها ما أعلمها!

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} للخياضة وهذا أيضا من عقلها وأدبها، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء بعد ما رأت ما رأت.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وكان سليمان -عليه السلام- قد أعد للملكة مفاجأة أخرى، لم يكشف السياق عنها بعد، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها -وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى:

(قيل لها: ادخلي الصرح. فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها! قال: إنه صرح ممرد من قوارير! قالت: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)..

لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة. فلما قيل لها: ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة. فكشفت عن ساقيها؟ فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها: (قال: إنه صرح ممرد من قوارير)!

ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر. فرجعت إلى الله، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره. معلنة إسلامها (مع سليمان) لا لسليمان. ولكن (لله رب العالمين).

لقد اهتدى قلبها واستنار. فعرفت أن الإسلام لله ليس استسلاما لأحد من خلقه، ولو كان هو سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات. إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين. ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة.. (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).

وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله، والإسلام له. فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين. بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله. لا غلاب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في الله.. رب العالمين.. على قدم المساواة.

ولقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرسول [صلى الله عليه وسلم] إياهم إلى الإسلام. وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد الله، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء. فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين. بين القائد والتابعين. فإنما يسلمون مع رسول الله لله رب العالمين!

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

الصرح، القصر العالي المزخرف، ودخلت الصرح، فدخلت صحنه، وهو ممرد أي مملس ملمسه ناعم وله بريق بسبب تمريده، وإزالة كل خشونة فيه حتى يحسبه الرائي لتنسيقه، وكأنه لجة من الماء، فحسبته ماء في صحن الصرح وخشيت على ثيابها المزخرفة فرفعتها، وكشفت عن سياقها، فنبهها سليمان إلى أنه ليس بماء وإنما هو صرح ممرد من زجاج يبدو بادئ الرأي كأنه لجة ماء وما هو بماء، فقال لها: إنه صرح ممرد من قوارير، أي من زجاج تكون منه القوارير، وهي جمع قارورة.