محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (44)

{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } أي القصر ، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصرا بديعا من زجاج ، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه ، ومقدار ما آثره الله به { فَلَمَّا رَأَتْهُ } أي صحنه { حَسِبَتْهُ لُجَّةً } أي ماء عظيما { وَكَشَفَتْ } أي للخوض فيه { عَن سَاقَيْهَا ، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } أي مملس { مِّن قَوَارِيرَ } أي من الزجاج { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له .

تنبيهات :

الأول – روى كثير من المفسرين ها هنا أقاصيص لم تصح سندا ولا مخبرا . وما هذا سبيله ، فلا يسوغ نقله وروايته .

قال الحافظ ابن كثير ، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسنا له ، ما مثاله : قلت : بل هو منكر غريب جدا . ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم .

ثم قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد في صحفهم ، كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى ، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد والغرائب والعجائب . مما كان ومما لم يكن . ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة .

الثاني – أشير في ( التوراة ) في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه . مما جاء فيه أن سليمان كان متسلطا على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر . وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي أنها تؤدي له الجزية ، وإن كان ملكه محصورا في فلسطين . وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهما ذكيا جدا ، وسعة صدر ، ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر . وقال ثلاثة آلاف مثل . وتكلم في الشجر ، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج من الحائط . وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك . وأما صرحه وبيته عليه السلام ، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم . وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة . وأنه بنى جازر وبيت حورون السفلي وبعلت وتدمر في أرض البرية . وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضا قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه ، ودهشتها مما رأته وتحققته ، وإيمانها بربه تعالى . ثم إعطاؤه إياها بغيتها . ثم انصرافها إلى أرضها .

وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم من سوق مؤرخ ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه ، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة . ومثار التبصر والفطنة .

الثالث – مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة ، أن في قوله تعالى : { فتبسم ضاحكا من قولها } أنه لا بأس بالتبسم والضحك عند التعجب وغيره . في قوله تعالى : { وتفقد الطير } استحباب تفقد الملك أحوال رعيته . وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان ، فأنشد :

تفقد الإخوان مستحسن *** فمن بداه نعم ما قد بدا

سن سليمان لنا سنة *** وكان فيما سنه مقتدى

تفقد الطير على ملكه *** فقال : ما لي لا أر الهدهدا

وأن في قوله تعالى : { لأعذبنه عذابا شديدا } الآية ، دليل على أن العذاب على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد . وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عن تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك . وأن في قوله تعالى : { قال أحطت بما لم تحط به } أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع : عندي من العلم ما ليس عندك ، إذا تحقق ذلك . وأن في قوله تعالى : { قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } قبول الوالي عذر رعيته ، ودرءه العقوبة عنهم ، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به . وأن في قوله تعالى : { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } إرسال الطير بالكتب . وأن في قوله تعالى : { كتاب كريم } استحباب ختم الكتب ، لقول السدي : كريم بمعنى مختوم . وأن في قوله تعالى : { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة . وأن في قوله تعالى : { أتمدونن بمال } الآية ، استحباب رد هدايا المشركين . كذا في ( الإكليل ) بزيادة .