الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (44)

42

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الصرح من زجاج وجعل فيه تماثيل السمك . فلما رأته وقيل لها : أدخلي الصرح . فكشفت عن ساقيها وظنت أنه ماء قال : { والممرد } : الطويل .

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان قد نعت لها خلقها ، فأحب أن ينظر إلى ساقيها ، فقيل لها { ادخلي الصرح } فلما رأته ظنت أنه ماء ، فكشفت عن ساقيها ، فنظر إلى ساقيها أنه عليهما شعر كثير ، فوقعت من عينيه وكرهها ، فقالت لها الشياطين : نحن نصنع لك شيئاً يذهب به . فصنعوا له نورة من أصداف ، فطلوها فذهب الشعر ، ونكحها سليمان عليه السلام .

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله قالت { رب إني ظلمت نفسي } قال : ظنت أنه ماء . وأن سليمان أراد قتلها فقالت : أراد قتلي - والله - على ذلك ، لأقتحمن فيه . فلما رأته أنه قوارير عرفت أنها ظلمت سليمان بما ظنت . فذلك قولها { ظلمت نفسي } وإنما كانت هذه المكيدة من سليمان عليه السلام لها . إن الجن تراجعوا فيما بينهم فقالوا : قد كنتم تصيبون من سليمان غرة ، فإن نكح هذه المرأة اجتمعت فطنة الوحي والجن فلن تصيبوا له غرة . فقدموا إليه فقالوا : إن النصيحة لك علينا حق ، إنما قدماها حافر حمار . فذلك حين ألبس البركة قوارير ، وأرسل إلى نساء من نساء بني إسرائيل ينظرنها إذا كشفت عن ساقيها . ما قدماها ؟ فإذا هي أحسن الناس ساقاً من ساق شعراء ، وإذا قدماها هما قدم إنسان ، فبشرن سليمان . وكره الشعر ، فأمر الجن ، فجعلت النورة . فذلك أول ما كانت النورة .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان سليمان بن داود عليه السلام إذا أراد سفراً قعد على سريره ، ووضعت الكراسي يميناً وشمالاً ، فيؤذن للإِنس عليه ، ثم أذن للجن عليه بعد الإنس ، ثم أذن للشياطين بعد الجن ، ثم أرسل إلى الطير فتظلهم ، وأمر الريح فحملتهم وهو على سريره ، والناس على الكراسي ، والطير تظلهم ، والريح تسير بهم . غدوها شهر ، ورواحها شهر ، رخاء حيث أراد . ليس بالعاصف ، ولا باللين ، وسطا بين ذلك . وكان سليمان يختار من كل طير طيراً ، فيجعله رأس تلك الطير . فإذا أراد أن يسائل تلك الطير عن شيء سأل رأسها .

فبينما سليمان يسير إذ نزل مفازة فقال : كم بعد الماء ههنا ؟ فسأل الإِنس فقالوا : لا ندري ! فسأل الشياطين فقالوا : لا ندري ! فغضب سليمان وقال : لا أبرح حتى أعلم كم بعد مسافة الماء ههنا ؟ فقالت له الشياطين : يا رسول الله لا تغضب ، فإن يك شيء يعلم فالهدهد يعلمه .

فقال سليمان : عليَّ بالهدهد . فلم يوجد ، فغضب سليمان وقال { لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين } يقول : بعذر مبين غيبه عن مسيري هذا .

قال : ومر الهدهد على قصر بلقيس فرأى لها بستاناً خلف قصرها ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه ، فإذا هو بهدهد في البستان فقال له : هدهد سليمان أين أنت عن سليمان وما تصنع ههنا ؟ فقال له هدهد بلقيس : ومن سليمان ؟ ! فقال : بعث الله رجلاً يقال له : سليمان رسولاً وسخر له الجن والإنس والريح والطير . فقال له هدهد بلقيس : أي شيء تقول ؟ قال : أقول لك ما تسمع . قال : إن هذا لعجب ! وأعجب من ذلك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة { وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } جعلوا الشكر لله : أن يسجدوا للشمس من دون الله .

قال : وذكر لهدهد سليمان ، فنهض عنه فلما انتهى إلى العسكر تلقته الطير فقالوا : تواعدك رسول الله ، وأخبروه بما قال . وكان عذاب سليمان للطير أن ينتفه ، ثم يشمسه ، فلا يطير أبداً ويصير مع هوام الأرض ، أو يذبحه فلا يكون له نسل أبداً . قال الهدهد : وما استثنى نبي الله ؟ قالوا : بلى . قال : أو ليأتيني بعذر مبين . فلما أتى سليمان قال : وما غيبتك عن مسيري ؟ قال { أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } قال : بل اعتللت { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } وكتب { بسم الله الرحمن الرحيم } إلى بلقيس { ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين } فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ، ألقى في روعها أنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان و { ألا تعلوا علي وائتوني مسلمين . . . ، قالوا نحن أولوا قوة } قالت { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها . . . ، وإني مرسلة إليهم بهدية } فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ارجع إليهم . فلما رجع إليها رسلها خرجت فزعة ، فأقبل معها ألف قيل مع كل قيل مائة ألف .

قال : وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه . فخرج يومئذ فجلس على سريره فرأى رهجاً قريباً منه قال : ما هذا ؟ قالوا : بلقيس يا رسول الله قال : وقد نزلت منا بهذا المكان ؟ قال ابن عباس : وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بين الكوفة والحيرة قال : فأقبل على جنوده فقال : أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ؟ قال : وبين سليمان وبين عرشها حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } .

قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما تجلس الأمراء ، ثم يقوم قال سليمان : أريد أعجل من ذلك .

قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا انظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه ، رد سليمان بصره ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان . من تحت كرسي كان يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير ، فلما رأى سليمان عرشها مستقراً عنده { قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر } إذ أتاني به قبل أن يرتد إليَّ طرفي { أم أكفر } إذ جعل من هو تحت يدي أقدر على المجيء مني ، ثم { قال نكروا لها عرشها . . . ، فلما جاءت } تقدمت إلى سليمان { قيل لها أهكذا عرشك فقالت كأنه هو } ثم قالت : يا سليمان إني أريد أن أسألك عن شيء فأخبرني به قال : سلي . قالت : أخبرني عن ماء رواء لا من الأرض ولا من السماء .

قال : وكان إذا جاء سليمان شيء لا يعلمه يسأل الإِنس عنه ، فإن كان عند الإِنس منه علم . . . وإلا سأل الجن ، فإن لم يكن عند الجن علم سأل الشياطين ، فقالت له الشياطين : ما أهون هذا يا رسول الله ! مر بالخيل فتجري ثم لتملأ الآنية من عرقها فقال لها سليمان : عرق الخيل قالت : صدقت قالت : فأخبرني عن لون الرب قال ابن عباس : فوثب سليمان عن سريره فخر ساجداً فقامت عنه ، وتفرقت عنه جنوده ، وجاءه الرسول فقال : يا سليمان يقول لك ربك ما شأنك ؟ قال : يا رب أنت أعلم بما قالت قال : فإن الله يأمرك أن تعود إلى سريرك فتقعد عليه ، وترسل إليها وإلى من حضرها من جنودها ، وترسل إلى جميع جنودك الذين حضروك فيدخلوا عليك ، فتسألها وتسألهم عما سألتك عنه قال : ففعل سليمان ذلك . فلما دخلوا عليه جميعاً قال لها : عم سألتيني ؟ قالت : سألتك عن ماء رواء لا من الأرض ولا من السماء قال : قلت لك عرق الخيل قالت : صدقت . قال : وعن أي شيء سألتيني ؟ قالت : ما سألتك عن شيء إلا عن هذا قال لها سليمان : فلأي شيء خررت عن سريري ؟ ! قالت : كان ذلك لشيء لا أدري ما هو . فسأل جنودها فقالوا : مثل قولها . فسأل جنوده من الإِنس ، والجن ، والطير ، وكل شيء كان حضره من جنوده ، فقالوا : ما سألتك يا رسول الله عن شيء إلا عن ماء رواء قال : وقد كان .

قال له الرسول : يقول الله لك : ارجع ثمة إلى مكانك فإني قد كفيتكم فقال سليمان للشياطين : ابنو لي صرحاً تدخل علي فيه بلقيس ، فرجع الشياطين بعضهم إلى بعض فقالوا لسليمان : يا رسول الله قد سخر الله لك ما سخر ، وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد له غلاماً فلا ننفك له من العبودية أبداً قال : وكانت امرأة شَعْرَاء الساقين فقالت الشياطين : ابنو له بنياناً كأنه الماء يرى ذلك منها فلا يتزوجها ، فبنوا له صرحاً من قوارير ، فجعلوا له طوابيق من قوارير ، وجعلوا من باطن الطوابيق كل شيء يكون من الدواب في البحر .

من السمك وغيره ثمَّ اطبقوه ، ثم قالوا لسليمان : ادخل الصرح . فألقي كرسياً في أقصى الصرح . فلما دخله أتى الكرسي فصعد عليه ثم قال : أدخلوا عليَّ بلقيس فقيل لها ادخلي الصرح فلما ذهبت تدخله فرأت صورة السمك ، وما يكون في الماء من الدواب { حسبته لجة فكشفت عن ساقيها } لتدخل . وكان شعر ساقها ملتوياً على ساقيها . فلما رآه سليمان ناداها وصرف وجهه عنها { إنه صرح ممرد من قوارير } فألقت ثوبها وقالت { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } .

فدعا سليمان الإِنس فقال : ما أقبح هذا ! ما يذهب هذا ! قالوا : يا رسول الله الموسى . فقال : الموسى تقطع ساقي المرأة ، ثم دعا الشياطين فقال مثل ذلك ، فتلكؤوا عليه ثم جعلوا له النورة قال ابن عباس : فإنه لأول يوم رؤيت فيه النورة قال : واستنكحها سليمان عليه السلام . قال ابن أبي حاتم : قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث !

وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن شداد قال : كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يسير وضع كرسيه ، فيأتي من أراد من الإنس والجن ، ثم يأمر الريح فتحملهم ، ثم يأمر الطير فتظلهم . فبينا هو يسير إذ عطشوا فقال : ما ترون بعد الماء ؟ قالوا : لا ندري . فتفقد الهدهد وكان له منه منزلة ليس بها طير غيره فقال { ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ، لأعذبنه عذاباً شديداً } وكان عذابه إذا عذب الطير نتفه ، ثم يجففه في الشمس { أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين } يعني بعذر بين .

فلما جاء الهدهد استقبلته الطير فقالت له : قد أوعدك سليمان فقال لهم : هل استثنى ؟ فقالوا له : نعم . قد قال : إلا أن يجيء بعذر بين . فجاء بخبر صاحبة سبأ ، فكتب معه إليها { بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا عليَّ وائتوني مسلمين } فأقبلت بلقيس ، فلما كانت على قدر فرسخ قال سليمان { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } فقال سليمان : أريد أعجل من ذلك . فقال الذي عنده علم من الكتاب { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } فأتى بالعرش في نفق في الأرض ، يعني سرب في الأرض قال سليمان : غيروه . فلما جاءت { قيل لها أهكذا عرشك } فاستنكرت السرعة ورأت العرش { فقالت كأنه هو . . ، قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته } لجة ماء { وكشفت عن ساقيها } فإذا هي امرأة شعراء فقال سليمان : ما يذهب هذا ؟ فقال بعض الجن : أنا أذهبه .

وصنعت له النورة . وكان أول ما صنعت النورة ، وكان اسمها بلقيس .

وأخرج ابن عساكر عن عكرمة قال : لما تزوج سليمان بلقيس قال : ما مستني حديدة قط فقال للشياطين : أنظروا أي شيء يذهب بالشعر غير الحديد ؟ فوضعوا له النورة ، فكان أول من وضعها شياطين سليمان .

وأخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أول من صنعت له الحمامات سليمان » .

وأخرج الطبراني وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أول من دخل الحمام سليمان ، فلما وجد حره أوَّهَ من عذاب الله » .

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال : لما قدمت ملكة سبأ على سليمان رأت حطباً جزلاً فقالت لغلام سليمان : هل يعرف مولاك كم وزن هذا الدخان ؟ فقال : أنا أعلم فكيف مولاي ؟ قالت : فكم وزنه ؟ فقال الغلام : يوزن الحطب ثم يحرق ، ثم يوزن الرماد فما نقص فهو دخانه .

وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال : كسر برج من أبراج تدمر ، فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير ، عليها عمامة طولها ثمانون ذراعاً ، مكتوب على طرف العمامة بالذهب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود ، ملكت الدنيا كافرة ومؤمنة ، ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي ، صار مصيري إلى الموت فأقصروا يا طلاب الدنيا .

وأخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد الله بن ربعي قال : لما أسلمت بلقيس تزوجها سليمان وأمهرها باعلبك .