فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (44)

{ قيل لها ادخلي الصرح } قال أبو عبيدة : الصرح القصر ، وقال الزجاج : الصرح الصحن ، يقال هذه صرحة الدار ، وقامتها ، وقال ابن قتيبة : الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير ، وجعل تحته ماء وسمك ، وأصله من التصريح وهو الكشف ، وكذب صراح أي ظاهر مكشوف ، ولوم صراح ؟ وحكى أبو عبيدة في الغريب : أن الصرح كل بناء عال مرتفع .

{ فلما رأته } أي الصرح بين يديها { حبسته لجة } هي معظم الماء ، وقال ابن عباس : البحر { و } لذلك { كشفت عن ساقيها } لتخوض الماء خوفا أن تبتل ؛ فإذا هي أحسن النساء ساقا سليمة مما قالت الجن فيها ، غير أنها كانت كثيرة الشعر ، فلما فعلت ذلك وبلغت إلى هذا الحد .

{ قال } لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها { إنه صرح ممرد } أي مسقف بسطح { من قوارير } فمن أراد مجاوزته لا يحتاج إلى تشمير ثيابه . والممرد المحكوك المملس ، ومنه الأمرد لملامسة وجهه ، وتمرد الرجل إذا لم تخرج لحيته .

قال الفراء : ومنه الشجرة المرداء ، التي لا ورق لها . والتمريد في البناء التمليس والتسوية أيضا المطول ، ومنه قيل للحصن : مارد . قوارير : جمع قارورة أي زجاج وتطلق القارورة على المرأة لأن الولد أو المني يقر في رحمها كما يقر الشيء في الإناء أو تشبيها بآنية الزجاج لضعفها ، قال الأزهري : والعرب تكنى عن المرأة بالقارورة والقوصرة قال آزاد البلجرامي رحمه الله :

كم من قلوب رقاق إثر عيسهم *** يل حادي العيس رفقا بالقوارير

والمراد بها هنا بيت الزجاج فلما سمعت بلقيس ذلك واستسلمت .

و { قالت رب إني ظلمت نفسي } أي بما كنت عليه من عبادة غيرك وهو الشمس وقيل : بالظن الذي توهمته في سليمان لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة . والأولى أولى .

{ وأسلمت مع سليمان } متابعة له داخلة في دينه وهو الإسلام { لله رب العالمين } التفتت من الخطاب إلى الغيبة قيل : إظهار معرفتها بالله والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء ، ولكونه علما للذات . وأخرج ابن المنذر ، وعبد بن حميد ، وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عباس في أثر طويل " إن سليمان تزوجها بعد ذلك " ، قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث .

قال ابن كثير في تفسيره بعد حكاية هذا القول : بل هو منكر جدا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل ، من الأوابد والغرائب والعجائب ، مما كان ، ومما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ انتهى .

وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير ونبهنا عليه في عدة مواضع وكنت أظن أنه لم ينبه على ذلك غيري ، فالحمد لله على هذه الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف ، وقيل : انتهى أمرها إلى قولها : أسلمت ، ولا علم لأحد وراء ذلك لأنه لم يذكر في الكتاب ولا في خبر صحيح .

أخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول من صنعت له الحمامات سليمان " وروي عنه مرفوعا من طريق أخرى رواه الطبراني ، وابن عدي في الكامل ، والبيهقي في الشعب بلفظ : أول من دخل الحمام سليمان ، فلما وجد حره قال : أوه من عذاب الله روي أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات هو ابن ثلاث وخمسين سنة ، وانقضى ملك بلقيس بانقضاء ملك سليمان ، فسبحان من لا انقضاء لدوام ملكه .