اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (44)

قوله : { قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح } تقدّم الخلاف في الظرف الواقع بعد «دخل » هل هو منصوب على الظرف ، وشذّ ذلك مع دخل خاصة - كما قاله سيبويه{[39068]} - أو مفعول به كَهَديت البيت كما قاله الأخفش{[39069]} . والصَّرحُ : القصر ، أو صحن الدار ، أو بلاط متخذ من زجاج وأصله من التصريح ، وهو الكشف ، وكذِبٌ «صُرَاحٌ » ، أي : ظاهر مكشوف ولومٌ صُراحٌ . والصريحُ مقابل الكناية ، لظهوره واستتار ضده . وقيل : الصريح الخالص من قولهم : لبنٌ صَرِيحٌ بيّن الصراحة والصروحة{[39070]} . وقال الراغب : الصَّرحُ بيت عالٍ مُزوّق ، سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً عن البيوت ، أي : خالصاً{[39071]} .

قوله : «سَاقَيْهَا » العامة على ألف صريحة ، وقُنْبُل روى همزها عن ابن كثير{[39072]} ، وضعَّفَها أبو علي{[39073]} ، وكذلك فعل قنبل في جمع ساق في : ص ، وفي الفتح ، همز واوه ، فقرأ «بالسُّؤْقِ والأَعْنَاق »{[39074]} ، { فاستوى على سُوقِهِ } [ الفتح : 28 ] بهمزة مكان الواو ، وعنه وجه آخر : السُّؤوق ، وسُؤُوقِهِ - بزيادة واو بعد الهمز{[39075]} - ، وروي عنه أنه كان يهمزه مفرداً في قوله : { يُكْشَفُ عَن سَاقٍ }{[39076]} [ القلم : 42 ] فأما همزة الواو ففيها أوجه :

أحدها : أن الواو الساكنة المضموم ما قبلها يقلبها بعض العرب همزة ، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة عند «يوقِنُونَ »{[39077]} ، وأنشد عليه :

3966 - أَحَبُّ المؤقدينَ إِلَيَّ مُؤْسَى{[39078]} *** . . .

وكان أبو حيّة النميري{[39079]} يهمزُ كُلَّ واوٍ في القرآن هذا وصفها{[39080]} .

الثاني : أَنَّ ساقاً على «فَعَل » كأسد ، فجمع على «فُعُل » بضم العين ، كأسد والواو المضمومة تطلب همزة ، نحو : «وُجُوه »{[39081]} ، و «وُقِّتَتْ »{[39082]} ثم بعد الهمزة سكنت .

الثالث : أن المفرد سمع همزه كما سيأتي تقريره ، فجاء جمعه عليه .

وأما سؤوق - بالواو بعد الهمزة - فإن ساقاً جمع على سووق بواو ، فهمزت الأولى لانضمامها وهذه الرواية غريبة عن قنبل . وأما «ساقها » فوجه الهمزة أحد أوجه : إما لغة من يقلب الألف همزة ، وعليه لغة العجاج{[39083]} في : العألم و «الخأتم » ، وأنشد :

3967 - وَخِنْدفُ هَامَة هذَا العَأْلَم{[39084]} *** . . .

وسيأتي تقريره في : { مِنسَأَتَهُ } [ سبأ : 14 ] - إن شاء الله{[39085]} - وتقدم طرف منه في الفاتحة{[39086]} ، وإما على التشبيه برأس ، وكأْسٍ ، كما قالوا : حلأْتُ السَّويقَ{[39087]} ، حملاً على حلأْته عن الماء ، أي : طردته{[39088]} وإما حملاً للمفرد والمثنى على{[39089]} جمعها ، وقد تقرر في جمعها الهمز .

فصل :

لما حكى تعالى إقامتها على الكفر مع الدلائل المتقدمة ، ذكر أنَّ سليمان{[39090]} أظهر أمراً{[39091]} آخر داعياً لها إلى الإسلام ، فأمر الشياطين فبنوا صرحاً أي : قصراً من زجاج ، كأنه الماء بياضاً وأجري تحته الماء ، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر من السمك والضفادع وغيرها ، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس{[39092]} ، وقيل : اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها{[39093]} تماثيل من الحيتان والضفادع ، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء{[39094]} ، فلما جلس على السرير دعا بلقيس ، فلما جاءت قِيل لها : ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ، وهي معظم الماء ، { وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَاَ } لتخوضه{[39095]} ، فقيل كان المقصود من بناء الصرح تهويل المجلس وتعظيمه ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع{[39096]} ، وقيل : إن سليمان أراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفها لما قالت الشياطين له{[39097]} إن رجلها كحافر الحمار{[39098]} ، وهي شعراء الساقين ، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً ، إلا أنها كانت شعراء الساقين ، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداها{[39099]} أنّه صرح «مُمرَّد » ، أي : مُمَلَّسٌ ، ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر وبريَّةٌ مرداء لخلوها من النبات ، ورملةٌ مرداء ، لا تنبت شيئاً ، والمارد من الشياطين من تَعَرَّى من الخير وتجرد منه{[39100]} .

ومارد حصنّ معروف ، وفي أمثال الزَّبَّاء : «تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الأَبْلَقُ »{[39101]} قالتها في حصنين امتنع فتحهما عليها . والقوارير ، جمع قارورة ، وهي الزجاج الشفاف{[39102]} ، و «مِنْ قَوَارِيرَ » صفة ثانية ل «صرح » .

قوله : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيَ } قال مقاتل : لما رأت السرير والصرح ، علمت أن ملك سليمان من الله ، فقالت ربِّ إنِّي ظلمتُ نَفْسِي بعبادة{[39103]} غيرك ، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ، وأخلصت لك{[39104]} التوحيد{[39105]} .

وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا ، فقولها : «ظَلَمْتُ نَفْسِي » تعني ذلك الظن{[39106]} .

واختلفوا : هل تزوجها سليمان أم لا ؟ وأنه تزوجها في هذه الحال ، ومن قبل أن يكشف عن ساقيها ؟ والأظهر من كلام الناس أنه تزوجها ، وروي عن ابن عباس لما أسلمت ، قال لها : اختاري من قومك من يتزوجك{[39107]} ، فقالت : مثلي لا تنكح الرجال - مع سلطاني{[39108]} - فقال : النكاح من الإسلام ، فقالت : إن كان كذلك فزوجني لتبع ملك همدان ، فزوجها إياه ، ثم ردهما إلى اليمن{[39109]} .

وروي أن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة{[39110]} .

قوله : «مَعَ سُلَيْمَانَ » متعلق بمحذوف على أنه حال ، ولا يتعلق : «أَسْلَمْتُ » ، لأنَّ إسلامه سابق إسلامها بزمان ، وهو وجه لطيف ، وقال ابن عطية : و «مَعَ » ظرف بُني على الفتح ، وأمَّا إذا أسكنت العين ، فلا خلاف أنه حرفٌ{[39111]} . وقد تقدم القول في ذلك{[39112]} وقال مكي{[39113]} هنا نحواً من قول ابن عطية{[39114]} .


[39068]:قال سيبويه: ( وقد قال بعضهم: ذهبت الشام، يشبه بالمبهم، إذ كان مكاناً يقع عليه المكان والمذهب. وهذا شاذ، لأنه ليس في ذهب دليل على الشام، وفيه دليل على المذهب والمكان، ومثل ذهبت الشام: دخلت البيت) الكتاب 1/35.
[39069]:عند حديثه عن قوله تعالى: {إلا من سفه نفسه}[البقرة: 130].
[39070]:انظر اللسان (صرح).
[39071]:المفردات في غريب القرآن (279).
[39072]:السبعة (483)، الكشف 2/160-161، النشر (338)، الإتحاف (337).
[39073]:قال أبو علي: (أما الهمز في "ساقيها" و"ساق" فلا وجه له) انظر الحجة 6/68.
[39074]:من قوله تعالى: {فطفق مسحاً بالسوق والأعناق}[ص: 33].
[39075]:انظر السبعة (553-554) (605).
[39076]:تفسير ابن عطية 11/214، البحر المحيط 7/79.
[39077]:من قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون}[البقرة: 4]. انظر اللباب 1/51.
[39078]:البيت من بحر الوافر، قاله جرير، وعجزه: وجعدة لو أضاءهما الوقود وقد تقدم.
[39079]:هو الهيثم بن الربيع، شاعر، مجيد، متقدم، من مخضرمي دولتي بن أمية والعباس، ومن الأعراب الفصاحاء كان مقصِّداً وراجزاً. الخزانة 10/217-220.
[39080]:قال أبو علي: (قال محمد بن يزيد: أخبرني أبو عثمان قال: أخبرني الأخفش قال: كان أبو حيّة النميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة: وينشد: أحبّ المؤقدان إليّ مؤسى وتقدير ذلك أن الحركة لما كانت تلي الواو في مؤسى صارت كأنها عليها، والواو إذا تحركت بالضمة أبدلت منها الهمزة) الحجة 1/179-180.
[39081]:من قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}[آل عمران: 106] وفي مواطن أخرى [الحج: 72]، [الملك: 27]، [القيامة: 22، 24]، وفي [عبس: 38، 40]، [الغاشية: 2، 8]. انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (744).
[39082]:من قوله تعالى: {وإذا الرسل أقتت}[المرسلات:11]. انظر ابن يعيش 10/11، الممتع 1/332-333.
[39083]:في ب: الحجاج. وهو تحريف.
[39084]:رجز قاله العجاج، وهو في ديوانه (60)، المقرب (517)، اللسان (علم)، شرح شواهد الشافية 2/428. خندف: امرأة الياس بن مضر. والشاهد فيه همز ألف العالم، وهو مفرد، ولم يسبق الحرف المهموز بالضم وهي لغة قليلة.
[39085]:في ب: الله تعالى.
[39086]:عند قوله تعالى: {ولا الضالين}[الفاتحة: 7]. انظر اللباب 1/33.
[39087]:همزوا ما ليس بمهموز، وقياسه: حليت السويق. انظر اللسان (حلا، علم).
[39088]:حلأ الإبل والماشية عن الماء تحليئاً وتحليئةً: طردها، أو حبسها عن الورود ومنعها أن ترده. اللسان (حلأ).
[39089]:في ب: عن.
[39090]:في ب: سليمان عليه الصلاة والسلام.
[39091]:في ب: أمر.
[39092]:انظر البغوي 6/287.
[39093]:في الأصل: تحته.
[39094]:انظر البغوي 6/287.
[39095]:في ب: لتخرضه. وهو تحريف.
[39096]:انظر الفخر الرازي 24/201.
[39097]:لها: سقط من ب.
[39098]:في ب: حمار.
[39099]:انظر البغوي 6/287-288.
[39100]:انظر اللسان (مرد).
[39101]:انظر مجمع الأمثال 1/222.
[39102]:انظر اللسان (قرر).
[39103]:في ب: بعبادتك. وهو تحريف.
[39104]:في ب: خلصت له.
[39105]:انظر البغوي 6/288.
[39106]:المرجع السابق.
[39107]:في ب: يتزوجها. وهو تحريف.
[39108]:في ب: مثلي مع سلطاني لا ينكح الرجال.
[39109]:انظر الفخر الرازي 24/201.
[39110]:انظر البغوي 6/290.
[39111]:انظر البحر المحيط 7/80.
[39112]:عند قوله تعالى: {...قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون][البقرة: 14].
[39113]:مكي: سقط من ب.
[39114]:قال مكي: (وقيل: هو اسم ظرف فلذلك فتح كالظرف، فإذا أسكنت العين فهو حرف لا غير) مشكل إعراب القرآن 2/150.