الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (44)

قوله : { الصَّرْحَ } : قد تقدم الخلافُ في الظرف الواقع بعد " دخل " : هل هو منصوبٌ على الظرفِ ؟ وشَذَّ ذلك مع " دخل " خاصةً كما قاله سيبويه ، أو مفعول به كهَدَمْتُ البيتَ كما قاله الأخفش . والصَّرْحُ : القَصْرُ أو صَحْنُ الدارِ أو بَلاطٌ متخَذٌ مِنْ زُجاج . وأصلُه من التصرِيح ، وهو الكشفُ . وكَذِبٌ صُراحٌ أي : ظاهرٌ مكشوفٌ وَلُؤْمٌ صُراحٌ . والصَّريحُ : مقابِلُ الكنايةِ لظهورِه واستتارِ ضدِّه . وقيل : الصريحُ : الخالِصُ ، مِنْ قولِهم : لَبَنٌ صَريحٌ بَيِّنُ الصَّراحَةِ والصُّرُوْحَةِ .

وقال الراغب : " الصَّرْحُ : بيتٌ عالٍ مُزَوَّقٌ ، سمِّي بذلك اعتباراً بكونِه صَرْحاً عن/ الشَّوْبِ أي : خالصاً " .

قوله : { سَاقَيْهَا } العامَّةُ على ألفٍ صريحةٍ . وقنبل روى همزَها عن ابنِ كثير . وضَعَّفَها أبو عليّ . وكذلك فعل قنبل في جمع " ساق " في ص ، وفي الفتح هَمَزَ واوَه . فقرأ " بالسُّؤْقِ والأَعْناق " " فاسْتَوَى على سُؤْقِه " بهمزةٍ مكانَ الواوِ . وعنه وجهٌ آخرٌ : " السُّؤُوْق " و " سُؤُوْقة " بزيادة واوٍ بعد الهمزةِ .

ورُوِي عنه أنه كان يَهْمِزُه مفرداً في قوله : { يُكْشَفُ عَن سَأْقٍ } [ القلم : 42 ] .

فأمَّا هَمْزُ الواوِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلَها يَقْلِبُها بعضُ العربِ همزةَ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أولِ البقرةِ عند " يُوْقنون " وأنشَدْتُ عليه :

أَحَبُّ المُؤْقِدِين إليَّ مُوْسَى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكان أبو حَيَّةَ النميري يَهْمِزُ كلَّ واوٍ في القرآن ، هذا وَصْفُها . الثاني : أنَّ ساقاً على فَعَلَ كأَسَدٍ ، فجُمِعَ على فُعُل بضمِّ العين كأُسُدٍ . والواوُ المضمومةُ تُقْلب همزةً نحو : وُجوه ، ووُقِّتَتْ ، ثم بعد الهمزِ سَكَنَتْ .

الثالث : أنَّ المفردَ سُمِعَ هَمْزُه ، كما سيأتي تقريرُه ، فجاء جَمْعُه عليه .

وأمَّا " سُؤُوْق " بالواوِ بعد الهمزةِ فإنَّ ساقاً جُمِع على " سُوُوق " بواوِ ، فهُمِزَتْ الأولى لانضمامِها . وهذه الروايةُ غريبةٌ عن قنبلٍ ، وقد قَرَأْنا بها ولله الحمدُ .

وأمَّا " سَأْقَيْها " فوجهُ الهمزِ أحدُ أوجهٍ : إمَّا لغةُ مَنْ يَقْلِبُ الألفَ همزةَ ، وعليه لغةُ العَجَّاج في العَأْلَمِ والخَأْتَمِ . وأنشد :

وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ ***

وسيأتي تقريرُه أيضاً في " مِنْسَأَته " في سبأ إنْ شاء اللهُ تعالى ، وتقدَّم طَرَفٌ منه في الفاتحة ، وإمَّا على التشبيهِ برِأْس وكَأْس ، كما قالوا : " حَلأْت السَّويق " حَمْلاً على حَلأُتُه عن الماء أي طَرَدْتُه ، وإمَّا حَمْلاً للمفرد والمثنى على جَمْعِهما . وقد تَقَرَّر في جمعِهما الهمزُ .

قوله : { مُّمَرَّدٌ } أي مُمَلَّسٌ . ومنه الأَمْرَدُ لِمَلاسَةِ وجهه من الشَّعر . وبَرِّيَّة مَرْدَاء : لخُلُوِّها من النباتِ ، ورَمْلَةٌ مَرْداء : لا تُنْبِتُ شيئاً . والمارِدُ من الشياطين : مَنْ تَعَرَّى من الخيرِ وتَجَرَّد منه . ومارِدٌ : حِصْنٌ معروفٌ . وفي أمثال الزَّبَّاء : " تَمَرَّد مارِدٌ وعَزَّ الأَبْلَقُ " قالَتْها في حِصْنَيْنِ امتنع فَتْحُهما عليها .

والقوارِيْرُ : جمعُ قارُوْرة ، وهي الزُّجاج الشفافُ . و " مِنْ قواريرَ " صفةٌ ثانية ل " صَرْحٌ " .

قوله : { مَعَ سُلَيْمَانَ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، ولا يتعلَّقُ ب " أَسْلَمْتُ " ؛ لأنَّ إسلامَه سابقٌ إسلامَها بزمانٍ . وهو وجهٌ لطيفٌ . وقال ابن عطية : " ومع ظرفٌ بُنِيَ على الفتحِ . وأمَّا إذا أُسْكِنَتِ العينُ فلا خِلافَ أنه حرفٌ " قلتُ : قد تقدَّم القولُ في ذلك . وقد قال مكي هنا نحواً مِنْ قولِ ابنِ عطيةَ .