المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (249)

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }

قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه ، وهو فاتفق بنو إسرائيل على طالوت ملكاً وأذعنوا وتهيؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل ، و { فصل } معناه خرج بهم من القطر ، وفصل حال السفر من حال الإقامة( {[2393]} ) ، قال السدي وغيره : كانوا ثمانين ألفاً .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا محالة أنهم كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان ، وقال وهب بن منبه : ولم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض .

واختلف المفسرون في النهر ، فقال وهب بن منبه : لما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا( {[2394]} ) فادع الله يجر لنا نهراً ، فقال لهم طالوت { إن الله مبتليكم } الآية ، وقال قتادة : النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين ، وقاله ابن عباس ، وقال أيضاً هو السدي ، النهر نهر فلسطين ، وقرأ جمهور القراء «بنهَر » بفتح الهاء ، وقرأ مجاهد وحميد الأعرج وأبو السمال وغيرهم «بنهْر » بإسكان الهاء في جميع القرآن ، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ، وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم عطش وهو غاية العذوبة ، والحسن ، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته ، وسهولته ، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الأكف انظف الآنية( {[2395]} ) . ومنه قول الحسن رحمه الله : [ البسيط ] .

لاَ يَدْلِفُونَ إلى مَاءٍ بآنِيةٍ . . . إلاَّ اغترافاً مِنَ الغُدْرانِ بِالرَّاحِ( {[2396]} )

وظاهر قول طالوت { إن الله مبتليكم } هو أن ذلك بوحي إلى النبي وإخبار من النبي لطالوت ، ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب ، فليس يحارب إلاّ بالجند المطيع ، ومنه قول معاوية : «عليّ في أخبث جند وأعصاه وأنا في أصح جند وأطوعه » ، ومنه قول علي رضي الله عنه : «أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان » ، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير الرفاهية ، كما قال عروة( {[2397]} ) : [ الطويل ]

وَأَحسوا قَرَاحَ الْمَاءِ والْمَاءُ بَارِد . . . فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم ، وقد ذهب قوم إلى عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم ، لكنه حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم( {[2398]} ) .

وقوله : { فليس مني } أي ليس من أصحابي في هذه الحرب ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من غشنا فليس منا ، ومن رمانا بالنبل فليس منا ، وليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود »( {[2399]} ) ، وفي قوله تعالى : { ومن لم يطعمه } سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم( {[2400]} ) ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم . ولهذه المبالغات لم يأت الكلام ، ومن لم يشرب منه( {[2401]} ) . وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «غَرفة » بفتح الغين . وهذا على تعدية الفعل إلى المصدر . والمفعول محذوف ، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة ، وقرأ الباقون «غُرفة » بضم الغين وهذا على تعدية الفعل إلى المفعول به ، لأن الغرفة هي العين المغترفة . فهذا بمنزلة إلاَّ من إغترف ماء ، وكان أبو علي يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً من جهة أن «غَرفة » بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف( {[2402]} ) ، ثم أخبر تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه ، وروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم . فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو ، بل برَّح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة .

قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }

«جاوز » فاعل من جاز ويجوز . وهي مفاعلة من اثنين في كل موضع . لأن النهر وما أشبهه كأنه يجاوز . واختلف الناس في { الذين آمنوا معه } كم كانوا ؟ فقال البراء بن عازب : كنا نتحدث ان عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، وفي رواية : وثلاثة عشر رجلاً ، وما جاوز معه إلا مؤمن( {[2403]} ) ، وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم كعدة أصحاب طالوت »( {[2404]} ) ، وقال السدي وابن عباس : بل جاوز معه أربعة آلاف رجل ، قال ابن عباس : فيهم من شرب ، قالا : فلما نظروا إلى جالوت وجنوده قالوا : لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، هذا نص قول السدي ومعنى قول ابن عباس ، فعلى القول الأول( {[2405]} ) قالت الجملة : { لا طاقة لنا اليوم } ، على جهة استكثارا العدو .

فقال أهل الصلابة منهم والتصميم والاستماتة : { كم من فئة قليلة } الآية ، وظن لقاء الله على هذا القول يحسن أن يكون ظناً على بابه ، أي يظنون أنهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال ، كما جرى لعبد الله بن حرام في يوم أحد ، ولغيره ، وعلى القول الثاني( {[2406]} ) قال كثير من الأربعة الآلاف : لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع من الموت ، وانصرفوا عن طالوت ، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم عدة أهل بدر : { كم من فئة قليلة } والظن على هذا بمعنى اليقين ، وهو فيما لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس .

قال القاضي أبو محمد : وما روي عن ابن عباس من أن في الأربعة الآلاف من شرب يرد عليه قوله تعالى : { هو والذين آمنوا معه } ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة ومن لم يشرب جملة ، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة ، فبعض كع وقليل صمم ، وقرأ أبي بن كعب «كأين من فئة »( {[2407]} ) ، والفئة الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد ، من قولهم : فاء يفيء إذا رجع ، وقد يكون الرجل الواحد فئة تشبيهاً ، والملك فئة الناس ، والجبل فئة ، والحصن ، كل ذلك تشبيه( {[2408]} ) ، وفي قولهم رضي الله عنهم : { كم من فئة } الآية ، تحريض بالمثال وحض واستشعار للصبر ، واقتداء بمن صدق ربه ، { وإذن الله } هنا( {[2409]} ) تمكينه وعلمه ، فمجموع ذلك هو الإذن ، { والله مع الصابرين } بنصره وتأييده .


[2393]:- فصل تأتي بمعنى انفصل – يقال: فصل عن الموضوع بمعنى، انفصل وجاوزه، والباء في (بالجنود) للحال، أي: والجنود مصاحبوه.
[2394]:- لقلَّتها، ومنه حديث أبي داود، والترمذي، والنسائي: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا) أي لم يقبل حمل الخبث لكثرته. وأولى ما تفسر به القلة ما روي عن ابن عباس أنه قال: إذا بلغ الماء ذنوبين لم يحمل الخبث. فجعل الذنوب مثل القُلَّة. والمراد أنهم شكوا خوف العطش وقلة الماء، والوقت وقت القيظ والصيف، والمسافة مفازة.
[2395]:- أي بعد غسلها كما في حديث ابن ماجة عن ابن عمر قال: (مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد) ا. هـ.
[2396]:- البيت للحسين بن هانئ وهو أبو نواس، ونص ما في ديوانه، (في دير حنة): يـا ديـر حنة ذات الأكــراح منْ يَصْحُ عنْكِ، فإني لست بالصَّاحـي  رأيـت فيك ظباءً لا قُرونَ لهـا يلْعَبْـــنَ مِنَّا بِألْبَـــابِ، وأرْوَاحِ  يَغْتَـادُهُ كُلُّ مَخْفُـوفٍ مفارقُـه مِنَ الدِّهَـانِ، عليه سحــق إمْسَـاح  في عُصْبَةٍ لم يدع مِنهم تَخَوُّفُهُم وُقــوع ما حَذِروهُ، غيرَ أشْبَــاح  لا يَدْلِفُـونَ إلى مـاءٍ بآنيــةٍ إلا اغتــرافاً من الغُدْرَانِ بالـرَّاح   والأكراح: مواضع يتجول فيها النصارى. ودلف – من باب ضرب- معناها: مشى رويدا وقارب الخطو.
[2397]:- هو ابن الورد العبسي الجاهلي، والبيت كما في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة: أُقَسِّمُ جِسمي في جُسُومٍ كثيـرةٍ وأحْسُو قَرَاحَ الماءِ والماءُ بَــارد والقراح (بفتح القاف) الماء الخالص الذي ليس به ما يطيبه كالعسل والتمر والزبيب، جمعه أقرحة.
[2398]:- عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي البدري كانت فيه دعابة معروفة. أمره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية، فأمرهم أن يجمعوا حطباً ويوقدوا ناراً، فلما أوقدوها أمرهم أن يدخلوا فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله بطاعتي ؟، وقال: من أطاع أميري فقد أطاعني، فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجوا من النار – فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). قال الله تعالى: [ولا تقتلوا أنفسكم] إلا أن مزاحه رضي الله عنه خشَّن الأمر الذي كلفه إياه وصعبه، أهم في طاعة أم في عصيان ؟
[2399]:- رواه الإمام مسلم في مسنده الصحيح.
[2400]:- هو بفتح الطاء، وهو أعم من الطُّعم بالضَّم، لأنه يشمل المائع وغيره.
[2401]:- يقال: طعِمت الشيءَ: ذقته، والنهي عن الذوق أبلغ من النهي عن الشرب لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم، قال ابن الأنباري: العرب تقول: أطعمتك الماء تريد أذقتك، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته، قال الشاعر: فإن شئت حرَّمت النساء عليكم وإن شئت لم أطعم نُقَاحاً ولا برداً ومن هذه الآية وقع الاختلاف بين أئمة الاجتهاد. آلماء ربوي أم لا ؟ وعند المالكية يجوز بيعه لأجل كما في مختصرهم.
[2402]:- كل من الفتح والضم مرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ومتواتر، وكل منهما له وجه في العربية ظاهر، فلا معنى للترجيح بينهما، وإن كان قد يقال: الضم أوجه لقوله تعالى: [فشربوا منه] والمشروب منه الغرفة كما قال أبو علي، ولأن المفتوح مصدر من غرف لا من اغترف، كما قال الإمام الطبري. وقوله: [إلا من اغترف غرفة بيده] استثناء من الجملة الأولى: [فمن شرب منه فليس مني] وليس اسثناء من الثانية: [ومن لم يطعمه فإنه مني]، والاسثناء إذا أعقب جملا يمكن عوده إلى كل واحدة منها فإنه يتعلق بالأخيرة، فإن دلّ دليل على تعلقه بواحدة منها كان تعلقه بها، وهنا دلّ دليل على تعلقه بالجملة الأولى – وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء لشدة ارتباطا بالأولى حتى إنها لتفهم منها ولو لم تذكر فصارت كأنها لم تذكر – راجع "البحر المحيط" 2-265.
[2403]:- رواه البخاري، وابن أبي شيبة، وابن جرير.
[2404]:- رواه ابن جرير.
[2405]:- هو قول قتادة والبراء بن عازب.
[2406]:- هو قول ابن عباس والسدي.
[2407]:- مرادفة لـ (كم) في التكثير، ولم يجيء تمييزها في القرآن إلا مصحوبا بمن.
[2408]:- أي بالجماعة التي يرجع إليها في الشدائد، فإن الملك فئة الناس أي مرجعهم وملجؤهم في الأزمات، والجبل فئة الناس يعتصمون به في الحرب ووقت الحاجة والضرورة. وأصل فئة فِئَيٌ، والهاء عوض من الياء.
[2409]:- أي في هذا المقام، وهو مقام غلبة القليل للكثير، يقال: مكّنه من الأمر جعل له عليه سلطانا وقدرة.