المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( 238 )

الخطاب لجميع الأمة ، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها وبجميع شروطها ، وذكر تعالى { الصلاة الوسطى } ثانية وقد دخلت قبل في عموم قوله { الصلوات } لأنه قصد تشريفها وإغراء المصلين بها ، وقرأ أبو جعفر أبو الرؤاسي( {[2304]} ) «والصلاةَ الوسطى » بالنصب على الإغراء ، وقرأ كذلك الحلواني( {[2305]} ) .

واختلف الناس من أي صلاة هو هذا الوصف ، فذهبت فرقة إلى أنها الصبح وأن لفظ { وسطى }( {[2306]} ) يراد به الترتيب ، لأنها قبلها صلاتا ليل يجهر فيهما ، وبعدها صلاتا نهار يسر فيهما ، قال هذا القول علي بن أبي طالب ، وابن عباس( {[2307]} ) ، وصلى( {[2308]} ) بالناس يوماً الصبح فقنت قبل الركوع فلما فرغ قال : «هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين » ، وقاله أبو العالية ورواه عن جماعة من الصحابة ، وقاله جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهادي( {[2309]} ) والربيع ومالك بن أنس . وقوى مالك ذلك بأن الصبح لا تجمع إلى غيرها ، وصلاتا جمع قبلها وصلاتا جمع بعدها( {[2310]} ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبْواً » ، وقال : «إنهما أشدّ الصلوات على المنافقين »( {[2311]} ) ، وفضل الصبح لأنها كقيام ليلة لمن شهدها والعتمة نصف ليلة( {[2312]} ) ، وقال الله تعالى { إن قرآن الفجر كان مشهوداً }( {[2313]} ) [ الإسراء : 78 ] ، فيقوي هذا كله أمر الصبح .

وقالت فرقة : هي صلاة الظهر . قاله زيد بن ثابت ورفع فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم( {[2314]} ) . وقاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر . واحتج قائلوا هذه المقالة بأنها أول صلاة صليت في الإسلام ، فهي وسطى بذلك ، أي فضلى ، فليس هذا التوسط في الترتيب ، وأيضاً فروي أنها كانت أشق الصلوات على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تجيء في الهاجرة ، وهم قد نفعتهم أعمالهم في أموالهم( {[2315]} ) ، وأيضاً فيدل على ذلك ما قالته حفصة وعائشة حين أملتا : حافظو على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر( {[2316]} ) ، فهذا اقتران الظهر والعصر .

وقالت فرقة : { الصلاة الوسطى } صلاة العصر لأنها قبلها صلاتا نهار وبعدها صلاتا ليل ، وروي هذا القول أيضاً عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري ، وفي مصحف عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر » ، وهو قولها المروي عنها . وقاله الحسن البصري وإبراهيم النخعي ، وفي إملاء حفصة أيضاً «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر » ، ومن روى «وصلاة العصر » فيتناول أنه عطف ( {[2317]} )الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد( {[2318]} ) . كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر » ، على البدل ، وروى هذا القول سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً » ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «كنا نرى أنها الصبح حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر .

فعرفنا أنها العصر « ، وقال البراء ابن عازب : كنا نقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : حافظوا على الصلوات وصلاة العصر . ثم نسخها الله ، فقرأنا : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } . فقال له رجل : فهي العصر ؟ ، قال : » قد أخبرتك كيف قرأناها وكيف نسخت( {[2319]} ) « ، والله أعلم . وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر ( {[2320]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول جمهور الناس وبه أقوال والله أعلم( {[2321]} ) .

وقال قبيصة بن ذؤيب : الصلاة الوسطى صلاة المغرب ، لأنها متوسطة في عدد الركعات ليست ثنائية ولا رباعية ، وأيضاً فقبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر ، وحكى أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر في شرح باب جامع الوقوت وغيره عن فرقة أن { الصلاة الوسطى } صلاة العشاء الآخرة ، وذلك انها تجيء في وقت نوم وهي أشد الصلوات على المنافقين ، ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها ، وأيضاً فقبلها صلاتان وبعدها صلاتان .

وقالت فرقة : { الصلاة الوسطى } لم يعينها الله تعالى لنا ، فهي في جملة الخمس غير معينة ، كليلة القدر في ليالي العشر ، فعَلَ الله ذلك لتقع المحافظة على الجميع ، قاله نافع عن ابن عمر وقاله الربيع بن خثيم .

وقالت فرقة : { الصلاة الوسطى } هي صلاة الجمعة فإنها وسطى فضلى ، لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيداً ، ذكره ابن حبيب ومكي .

وقال بعض العلماء : { الصلاة الوسطى } المكتوبة الخمس( {[2322]} ) ، وقوله أولاً { على الصلوات } يعم النفل والفرض ، ثم خص الفرض بالذكر ، ويجري مع هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى .

وقوله تعالى { وقوموا لله قانتين } معناه في صلاتكم ، واختلف الناس في معنى { قانتين } ، فقال الشعبي : » معناه مطيعين « ، وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير ، وقال الضحاك : كل قنوت في القرآن فإنما يعنى به الطاعة ، وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون لله عاصمين ، فقيل لهذه الأمة وقوموا لله مطيعين ، وقال نحو هذا الحسن بن أبي الحسن وطاوس ، وقال السدي : » قانتين معناه ساكتين »( {[2323]} ) ، وهذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحاً في صدر الإسلام .

وقال عبد الله بن مسعود : «كنا نتكلم في الصلاة ونرد السلام ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته » قال : «ودخلت يوماً والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس فسلمت فلم يرد عليّ أحد ، فاشتد ذلك عليَّ ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة ، والقنوت السكوت ، وقاله زيد بن أرقم ، وقال : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : { وقوموا لله قانتين } ، فأمرنا بالسكوت ، وقال مجاهد : معنى قانتين خاشعين ، القنوت طول الركوع الخشوع وغض البصر وخفض الجناح .

قال القاضي أبو محمد : وإحضار الخشية والفكر في الوقوف بين يدي الله تعالى ، وقال الربيع : القنوت طول القيام وطول الركوع والانتصاب له ، وقال قوم : القنوت الدعاء ، و { قانتين } معناه داعين ، روي معنى هذا عن ابن عباس ، وفي الحديث : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان ، فقال قوم : معناه دعا ، وقال قوم : معناه طوّل قيامه ، ولا حجة في هذا الحديث لمعنى الدعاء( {[2324]} ) .


[2304]:- هو محمد بن الحسن بن أبي سارة الكوفي النحوي، إمام مشهور، روى الحروف عن أبي عمرو، وله اختيار في القراءة يروى عنه، واختيار في الوقوف، روى عنه علي بن حمزة الكسائي، وخلاد بن خالد الصيرفي.
[2305]:- هو أحمد بن يزيد الصفار المعروف بازداذ. أبو الحسن الحلواني، إمام كبير عارف صدوق متقن ضابط خصوصا في قالون وهشام، توفي سنة 250هـ.
[2306]:- الذي تقتضيه قواعد اللغة العربية أن (الوسطى) مؤنث الأوسط بمعنى الفُضْلى مؤنث الأفضل، وأفعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقصان، وكل ما لا يكون كذلك فلا يبنى منه أفعل التفضيل، وكون الشيء وسطا بين شيئين يجعله صالحاً لأن يبنى منه أفعل التفضيل، فينبغي أن يكون معنى الوسطى الفضلى، لأن ذلك يرجع إلى معنى يقبل التفاوت والتفاضل.
[2307]:- رواه الإمام مالك عنهما في الموطأ بلاغاً.
[2308]:- أي ابن عباس رضي الله عنهما. وقد تفيد (الواو) في قول ابن عطية رواية عن الإمام مالك: (وصلى) أن ابن عباس قال ذلك حين صلى بالناس يوما الصبح... الخ.
[2309]:- هو الليثي. ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل العلم، روى عن عمر وعلي وعن أبيه شداد.
[2310]:- قبلها صلاة المغرب والعشاء، وبعدها صلاة الظهر والعصر، وكل من الصلاتين يجمع تقديما وتأخيراً.
[2311]:- هذه الأحاديث التي تتضمن فضل صلاة العشاء والصبح غير واضحة الدلالة على أنها هي الصلاة الوسطى، والحديث الأول والثاني رواه البخاري وغيره.
[2312]:- رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والإمام مسلم.
[2313]:- من الآية (78) من سورة (الإسراء).
[2314]:- رواه ابن جرير الطبري مرفوعا، وروى مالك في موطئه، وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: (الصلاة الوسطى صلاة الظهر) زاد أبو داود الطيالسي: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجر».
[2315]:- أي أعيتهم وأتعبتهم أعمالهم. يقال: نَفِهت نفس فلان نفها: أعْيَتْ وكلَّت. فهو نافهٌ (ج) نُفَّه.
[2316]:- يعني أن اقتران صلاة العصر بالصلاة الوسطى دلالة على أن المراد بها الظهر إذ للقرآن معنى خاص، ويأتي أن هذه الزيادة هي من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وليست من القرآن. وقد يقال أيضا: إن هذه الزيادة ربما تدل على أن صلاة العصر غير صلاة الوسطى، لأن العطف يقتضي المغايرة، وهذا مصادم لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب.
[2317]:- حاصله أنه رُوي: «والصلاة الوسطى وصلاة العصر» بالعطف، وبدون عطف على أنها بدل، وروي أيضا: «والصلاة الوسطى وهي العصر»، والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»، فهذه أربع روايات، وهي تتعارض فيما بينها، وحديث البراء بن عازب قد يدل على نسخ ذلك، فتأمل، وأيا ما يكون فإن ذلك من باب التفسير، وليس من القرآن في شيء لعدم تواتره، ولذا لم يثبت في المصحف الإمام.
[2318]:- فهو من عطف الصفات، لا من عطف الذوات، وكان ذلك لاختلاف اللفظين.
[2319]:- هذا الحديث رواه الإمام مسلم، وغيره. وقد عضد به ابن عطية رحمه الله القول بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وفهمه أبو عبد الله (ق) رحمه الله على أنها مبهمة غير معينة قال: «يلزم من هذا الحديث أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأُبهمت»، ثم قال: «وهذا هو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح فلم يبق إلا المحافظة على الصلوات الخمس وأدائها في أوقاتها».
[2320]:- رواه ابن جرير، وقال الحافظ بن كثير: إسناده لا بأس به، ورواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وسمرة بن جندب كما عند الترمذي في جامعه، وابن حبان في صحيحه.
[2321]:- هذا القول هو الراجح عند أهل الحديث، وهو قول الجمهور، ورجحه الإمام الطبري وأبو بكر بن العربي المعافري، وأبو محمد بن عطية، وأبو حيان الأندلسي، وشيخه الحافظ أبو محمد، وغيرهم من الأعلام، وما ذلك إلا لأنه استفاض من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قد يقال: إذا كان قد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا اختلف الصحابة في هذه المسألة اختلافا واسعا ؟ وقد قدمنا عن أبي عبد الله (ق) أنه صحح أنها مبهمة لتعارض الأدلة وانعدام الترجيح، والله أعلم.
[2322]:- هذا غير ما سبق من أنها في جملة الخمس غير معينة، وحاصله أن من العلماء من يقول: هي واحدة من الصلوات الخمس إلا أنها مبهمة، ومنهم من يقول: هي مجموع الصلوات الخمس ولو قال: الخمس المكتوبة لكان أوضح.
[2323]:- القنوت يتصرف في الكلام على معان كثيرة – إلا أن الراجح حمله على معنى السكوت في الآية لحديث عبد الله بن مسعود، ولحديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما، وأما القنوت بمعنى الدعاء فقد داوم عليه صلى الله عليه وسلم في الصبح دون غيرها.
[2324]:- أي بدليل قوله: يدعو على رعل وذكوان، فلو كان قنت معناه دعا لتكرر ذلك، وإنما معناه أطال القيام للدعاء على رعل وذكوان الذين قتلوا القراء ببئر معونة. تنبيه: القيام في الفرض واجب على كل من قدر عليه فذاً كان أو إماماً، واختلفوا في المأموم إذا صلى قاعداً خلف إمام لا يستطيع القيام فقال بعضهم: إن ذلك جائز لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى جلوساً فصلوا جلوساً أجمعون). وهو الصحيح، وقال بعضهم: يجوز أن يصلي خلفه وهو قائم إذ كل منهما يؤدي فرضه على حسب طاقته، انظر تفسير (ق) رحمه الله.