المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 6 )

معنى الكفر( {[181]} ) مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر ، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في ليلة كفر النجوم غمامُها( {[182]} )

أي سترها ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر : [ ثعلبة بن صغيرة ] : [ الكامل ] .

فتذكر ثقلاً رثيداً بعدما . . . ألقت ذكاءَ يمينها في كافر( {[183]} )

ومنه قيل للزراع كفار ، لأنهم يغطون الحب ، ف «كفر » في الدين معناه غطى على قلبه( {[184]} ) بالرِّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله .

واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود كفار قد أسلموا بعدها .

فقال قوم : «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد »( {[185]} ) .

وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب ، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظارائهم » وقال الربيع بن أنس : «نزلت في قادة الأحزاب( {[186]} ) وهم أهل القليب ببدر » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا حكي هذا القول ، وهو خطأ ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم ، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب ، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه ، وكل من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية . وقوله : { سواء عليهم } معناه معتدل عندهم( {[187]} ) ، ومنه قول الشاعر( {[188]} ) : [ أعشى قيس ] : [ الطويل ] .

وليل يقول الناس من ظلماتِهِ . . . سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها

قال أبو علي : في اللفظة أربع لغات : سوى( {[189]} ) بكسر السين ، وسواء بفتحها والمد ، وهاتان لغتان معروفتان ، ومن العرب من يكسر السين ويمد ، ومنهم من يضم أوله ويقصره ، وهاتان اللغتان أقل من تينك . ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا : «قيي( {[190]} ) ، وقواء » .

و { سواء } رفع على خبر { إن } ، أو رفع على الابتداء( {[191]} ) وخبره فيما بعده ، والجملة خبر { إن } ، ويصح أن يكون خبر { إن } { لا يؤمنون } .

وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع : «آنذرتهم » بهمزة مطولة( {[192]} ) ، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن ، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خففت ، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير ، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفاً ، وابن كثير لا يفعل ذلك . وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية . وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين ، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر : فبالهمزتين «أأنذرتهم » ، وما كان مثله في كل القرآن .

وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما .

وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم » بحذف الهمزة الأولى ، وتدل { أم } على الألف المحذوفة ، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها ، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء . والإنذار إعلام بتخويف ، هذا حده ، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين .

قال الله عز وجل : { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }( {[193]} ) [ فصلت : 13 ] وقال : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً }( {[194]} ) [ النساء : 40 ] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه .

وقوله تعالى : { آنذرتهم أم لم تنذرهم } لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً سواء عليّ أقعدت أم ذهبت ، وإذا قلت مستفهماً أخرج زيد أم قام ، فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عمتهما التسوية جرى عل هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام ، وكل استفهام تسوية ، وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً . ( {[195]} )


[181]:- الكفر في الدين: كفر التوحيد والإيمان، وكفر النعمة والإحسان، والمراد هنا الأول.
[182]:- البيت من معلقة لبيد بن ربيعة وصدره: يعلو طريقة متْنِها متواترا ................................
[183]:- هو لثعلبة بن صعيرة المازني يصف النعامة والظليم ورواحهما إلى بيضها عند غروب الشمس، والثقيل هنا: البيض المصون: والرَّثيد المنسق بعضه إلى بعض، وذُكاء اسم للشمس، وألقت يمينها في كافر: عبارة عن كونها بدأت في المغيب.
[184]:- في هذه الفقرة قلق فقوله (على قلبه) مربوط بالرين، وقوله (عن الإيمان) معلق بغطى والمعنى أنه غطى قلبه عن الإيمان بما كسبه من الرين.
[185]:- في بعض النسخ: دون أن يعيِّن أحدا.
[186]:- أي أحزاب الكفر، روى ابن جرير، وابن المنذر، عن أبي العالية في قوله تعالى: [إن الذين كفروا] قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية [ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا] قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل من القادة في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان، والحكم بن العاص.
[187]:- اعتدل الشيء توسط بين حالين، وتناسب، واستوى، فسواء بمعنى مستو.
[188]:- هو أعشى قيس الملقب بالأعشى الأكبر.
[189]:- منه قوله تعالى: [فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سُوى] قرئ فيالسبع "بالكسر والضم".
[190]:- القيي والقواء قفر الأرض.
[191]:- الكلام محمول على المعنى، فسواء وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو خير في المعنى، أي "الإنذار أو عدمه سواء عليهم". كقولك: سواء علي أقمت أم قعدت- أي "قعودك أو قيامك سواء علي"
[192]:- اعلم أن القراء اختلفوا في الهمزة الثانية التي هي فاء الكلمة من قوله تعالى: [أأندرتَهُمْ] فقالون والبصري يسهلانها ويدخلان بين الهمزتين ألفا. وورش وابن كثير يسهلانها من غير إدخال، ولورش أيضا إبدالها ألفا فيلتقي مع سكون النون إلا أن المد لازم في هذه الحالة-والباقون يحققون من غير إدخال إلا هشاما فله التحقيق والتسهيل مع الإدخال. ولقد طعن الزمخشري في قراءة ورش من حيث أنها تؤدي إلى الجمع بين الساكنين على غير حدّه، ولا شاهد له على ذلك. والحق أن هذه القراءة صحيحة ومتواترة، وهذا أقوى شاهد على ذلك- وأيضا فقد أجاز الكوفيون ذلك، ويكفي مذهبهم في ذلك، ومن هنا أنبه إلى أن الزمخشري سامحه الله كثير الطعن في القراءات، فلا تحفل بكلامه في هذا المقام، ولا تخدعنك شقشقة الكلام، والتوفيق بيد الله تعالى.
[193]:- من الآية (13) من سورة (فصلت).
[194]:- من الآية (40) من سورة (النبأ).
[195]:- قال أبو عبيدة في كتاب "مجاز القرآن" في هذه الآية الكريمة- هذا كلام هو إخبار خرج مخرج الاستفهام، وليس هذا إلا في ثلاثة مواضع هذا أحدها والثاني: "ما أبالي أقْبَلْت أم أدبرْتَ". والثالث: "ما أدري أوليَّيت أم جاء فلان". انتهى، وقد أثنى أبو (ح) رحمه الله على ما قاله ابن عطية إلا أنه ناقشه في قوله: ومعناه الخبر، انظره وتأمله. وكما يجيء الاستفهام بمعنى الخبر يأتي الخبر بمعنى الاستفهام كقوله تعالى: [وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل].