المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ} (28)

و «المنافع » في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره ، وقال أبو جعفر محمد بن علي : أراد الأجر و { منافع } الآخرة ، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى : { اسم الله } ، يصح أن يريد بالاسم ها هنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب ، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات ، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام

«إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى »{[8359]} ، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحو والذبح ، وقالوا إن في ذكر «الأيام » دليلاً على أن الذبح في الليل لا يجوز ، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي ، وقال ابن عباس «الأيام المعلومات » هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق ، وقال ابن سيرين : بل أيام العشر فقط ، وقالت فرقة : أيام التشريق ، ذكره القتبي ، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه : بل المعلومات يوم النحر ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوماً لا معدوداً واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا ذكر { اسم الله } هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره ، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في الأيام المعدودات فتأمل هذا ، يبين لك قصدهم ، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم وتكون فائدة قوله { معلومات } و { معدودات } [ البقرة : 184 ، آل عمران : 24 ] التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال : هي مخصوصات فلتغتنم . وقوله ، { فكلوا } ندب ، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق{[8360]} بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل ، و { البائس } الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها ، يقال : بأس الرجل يبؤس{[8361]} وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقراً ، ومنه قوله عليه السلام ، «لكن البائس سعد بن خولة »{[8362]} ، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة .


[8359]:أخرجه مسلم في الصيام، وأبو داود في الأضاحي، والترمذي في الصوم، والنسائي في الحج، وابن ماجه في الصيام، وكذلك الدرامي، ومالك في الحج في موطئه، والإمام أحمد 5 ـ 75، ولفظه فيه عن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)، وفي رواية أخرى عنه: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نهيناكم أن تأكلوا لحومها فوق ثلاث كي تسعكم، فقد جاء الله بالسعة، فكلوا وادخروا واتجروا، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله تبارك وتعالى).
[8360]:في بعض النسخ "وأن يتصدق".
[8361]:الذي في اللسان (بأس) هو: "بؤس الرجل يبؤس بأسا إذا كان شديد البأس شجاعا، فهو بئيس، أي شجاع، وبئس يبأس بؤسا وبأسا وبئيسا إذا افتقر واشتدت حاجته، فهو بائس، أي فقير".
[8362]:هذا جزء من حديث أخرجه البخاري في باب الجنائز ومناقب الأنصار والفرائض، وأخرجه مسلم في الوصية، وأخرجه مالك في موطئه أيضا في الوصية، ولفظه كما في البخاري، عن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث والثلث كبير أو كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك، فقلت: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي، قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة، ثم لعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن خوله يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة).