المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

ثم أمره أن يدخل يده في جيبه وهو فتح الجبة من حيث يخرج رأس الإنسان ، وروي أن كم الجبة كان في غاية الضيق فلم يكن له جيب تدخل يده إلا في جيبه ، و «سلك » معناه أدخل ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

حتى سلكن الشوا منهن في مسك . . . من نسل جوابة الآفاق مهداج{[9146]}

وقوله تعالى : { من غير سوء } أي من غير برص ولا مثلة .

وروي أن يده كانت تضيء كأنها قطعة شمس ، وقوله تعالى : { واضمم إليك جناحك من الرهب } ذهب مجاهد وابن زيد إلى أن ذلك حقيقة ، أمره بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ، ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في أوقات فزعه أن يقوى قلبه ، وذهبت فرقة إلى أن ذلك على المجاز والاستعارة وأنه أمره بالعزم على ما أمر به وأنه كما تقول العرب اشدد حيازيمك واربط جأشك ، أي شمر في أمرك ودع الرهب ، وذلك لما كثر تخوفه في غير ما موطن قاله أبو علي ، وقوله تعالى { فذانك برهانان } قال مجاهد والسدي : هي إشارة إلى العصا واليد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والناس «الرَّهَب » بفتح الراء والهاء ، وقرأ عاصم وقتادة «الرهْب » بسكون الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم أيضاً «الرُّهْب » بضم الراء وسكون الهاء ، وقرأ الجحدري «الرُّهُب » بضم الراء والهاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فذانّك » بشد النون ، وقرأ الباقون «فذانك » بتخفيف النون ، وقرأ شبل عن ابن كثير «فذانيك » بياء بعد النون المخففة ، أبدل إحدى النونين ياء كراهة التضعيف ، وقرأ ابن مسعود «فذانيك » بالياء أيضاً مع شد النون وهي لغة هذيل ، وحكى المهدوي أن لغتهم تخفيف النون ، و { برهانان } ، حجتان ومعجزتان ، وباقي الآية بين .


[9146]:البيت لأبي وجزة السعدي، وهو في (اللسان-مسك-و­هدج­)، مع بيت قبله، قالهما أبو وجزة في وصف حمر الوحش: مازلن ينسبن وهنا كل صادقة باتت تباشر ُعْرما غير أزواج حتى سلكن الشوى منهن في مسك من نسل جوابة الآفاق مهداج يصف الحمر حين أتت ليلا فأثارت القطا، فصاحت: قطا قطا، جعلها صادقة لأنها خبرت باسمها، كما يقال: أصدق من القطا، وقوله: تباشر عرما، عنى به بيضها، والأعرم: الذي فيه نقط بياض ونقط سواد، وكذلك بيض القطا، وقوله: غير أزواج: يريد أن بيض القطا يكون أفرادا ولا يكون أزواجا، والشوى: قوائم الحمر الوحشية، والمسك هنا: الماء الذي سارت فيه الأتن ووضعت قوائمها فيه فصار حولها كالمسك وهو السوار، قال صاحب اللسان: استعاره أبو وجزة فجعل ما تخل فيه الأتن قوائمها من الماء مسكا، وقوله: جوابة الآفاق: يريد الريح، ويقول: إن الماء من نسلها، لأن الريح تستدر السحاب وتلقحه فيمطر، فالماء من نسلها، والمهداج: التي لها صوت وحنين، فهي ريح سريعة الحركة في الآفاق، وهي ريح لها صوت وحنين، والشاهد هنا أن (سلكن) في البيت بمعنى: ادخلن، يعني أن الأتن أدخلن قوائمهن في الماء الذي صار حولها كالسوار.