السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

ثم زاد طمأنينة بقوله تعالى : { اسلك } أي : ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة { يدك في جيبك } أي : القطع الذي في ثوبك وهو الذي يخرج منه الرأس أو هو الكم كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرّ { تخرج بيضاء } بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات { من غير سوء } أي : عيب من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته أو غيره فخرجت ولها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر .

تنبيه : قد ذكر هذا المعنى بثلاث عبارات إحداها هذه وثانيتها : { واضمم يدك إلى جناحك } ( طه : 22 ) وثالثتها : { وأدخل يدك في جيبك } ( النمل ، 12 ) .

{ واضمم إليك جناحك } أي : يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس ، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرضٍ آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو أظهر جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه ، ومنه ما يحكي عن عمر بن عبد العزيز : أن كاتباً له كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر : خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي .

ومعنى قوله تعالى { من الرهب } من أجل الرهب أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك تجلداً وضبطاً لنفسك ، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه ، قال الفراء : أراد بالجناح العصا ومعناه اضمم إليك عصاك ، قال البغويّ : وقيل الرهب الكمّ بلغة حمير ، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي : في كمك ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ لأنه تناول العصا ويده في كمه انتهى ، قال الزمخشريّ معترضاً هذا القول : ومن بدع التفاسير أن الرهب الكمّ بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف وقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها انتهى .

ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذٍ لا تعارض ، وفي البغوي عن ابن عباس : إن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال : وما من خائف بعد موسى عليه السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه ، وقال مجاهد : وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء ، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء ، والكل لغات .

ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى : { فذانك } أي : العصا واليد البيضاء ، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون ، وخففها الباقون { برهانان } أي : سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان { من ربك } أي : المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره { إلى فرعون وملإيه } أي : وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط ، فإن قيل لم سميت الحجة برهاناً ؟ أجيب : بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معاً والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت لإنارتها .

ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله : { إنهم كانوا } أي : جبلة وطبعاً { قوماً } أي : أقوياء { فاسقين } أي : خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم .