اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

وقوله : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سوء } فقد عبّر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : إحداها هذه ، وثانيها { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }{[40214]} ، وثالثها { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ النمل : 12 ] قوله «مِنَ الرَّهْبِ » متعلق بأحد أربعة أشياء ، إمّا ب «وَلَّى »{[40215]} ، وإمَّا ب «مُدْبراً »{[40216]} ، وإمَّا ب «اضمم » ، ويظهر هذا الثالث إذا فسَّرنا الرَّهب بالكمِّ ، وإمّا{[40217]} بمحذوف أي : تسكن من الرهب{[40218]} وقرأ حفص بفتح الراء وإسكان الهاء . والأخوان وابن عامر وأبو بكر بالضم والإسكان ، والباقون بفتحتين{[40219]} ، والحسن{[40220]} وعيسى والجحدري وقتادة بضمتين{[40221]} وكلها لغات{[40222]} بمعنى الخوف وقيل{[40223]} هو بفتحتين الكُمُّ بلغة حمير وحنيفة{[40224]} ، قال الزمخشري «هُو من بدِع التفاسير » قال : وليت شعري كيف صحته في اللغة ، وهل سُمِعَ من الثقات الأثبات التي تُرْتَضى عربيتهم ، أم ليت شعري كيف موقعه في الآية ، وكيف تطبيقه المفضل{[40225]} كسائر كلمات التنزيل ، على أن موسى صلوات الله عليه ليلة المناجاة ما كان عليه إلاَّ زُرْمانِقَة{[40226]} من صُوفٍ لا كُمّ لها{[40227]} .

الزُّرمانقة : المدرعةُ . قال أبو حيان : هذا مروي عن الأصمعي ، وهو ثقة ، سمعتهم يقولون أعطني ما في رهبك أي كُمِّكَ ، وأما قوله : كيف موقعه ؟ فقالوا : معناه : أخرج يدكّ من كُمِّكَ{[40228]} .

قال شهاب الدين : كيف يستقيم هذا التفسير ، يُفَسِّرُون «اضْمُمْ » بمعنى أَخْرِج{[40229]} .

وقال الزمخشري : فإن قُلْتَ : قد جعل الجناح وهو اليَدُ في أحد الموضعين مضموماً ، وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وقوله { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم : هو اليد اليمنى ، وبالجناح المضموم إليه هو اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح{[40230]} .

فصل :

قال الزمخشري{[40231]} : في { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } معنيان :

أحدهما : أنّ موسى عليه السلام{[40232]} لمَّا قلب الله له العصا حيَّةً فزع واضطر واتقاها{[40233]} بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إنَّ اتقاءك بيدك فيه{[40234]} غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها وقد انقلبت{[40235]} حية فأدخل يدك{[40236]} مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما منه{[40237]} غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد ، لأن يد الإنسان بمنزلة جناح الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد{[40238]} اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه{[40239]} .

( الثاني : أن يراد بضم جناحه{[40240]} تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حيَّة حتى لا يضطرب ){[40241]} ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نَشَرَ جناحيه{[40242]} وأرخاهُما ، وإلا فجناحاه منضمان إليه مستمران ومعنى قوله «مِنَ الرَّهْب » أي : من أجل الرهب إذا{[40243]} أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ( ومعنى { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } ){[40244]} وقوله «اسْلُكْ يَدَكَ » على أحد التفسيرين واحد ، وإنما{[40245]} خُولِفَ بين العبارتين وكرَّر المعنى{[40246]} لاختلاف الغرضين ، وذلك أنَّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب{[40247]} . قال البغوي : المعنى{[40248]} إذا هَالَك أمر يدك وما ترى من شعاعها ، فأدخِلْها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى ، والجناح اليد كلها وقيل : العضد . وقال عطاء عن ابن عباس : مره الله ( أن يَضُمَّ ){[40249]} يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية . وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه .

وقال مجاهد : كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع ، وقيل : المراد من ضم الجناح السكون ، أي : سكّن روعَك واحفظ عليك جأشك{[40250]} ، لأن من شأن الخائف أن يضطرب عليه قلبه وترتعد يداه{[40251]} ، ومثله قوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل } [ الإسراء : 24 ] يريد : المرفق ، وقوله : { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك } [ الشعراء : 215 ] أي : ارفق بهم وأَلِنْ جانبك لهم ، وقال الفراء : أراد بالجناح العصا{[40252]} ، معناه : واضمُمْ إليك عَصَاك{[40253]} .

قوله : «فَذانك » تقدم قراءة{[40254]} التخفيف والتثقيل في النساء{[40255]} ، وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل{[40256]} بياء بعد نون مكسورة ، وهي لغة هذيل{[40257]} ، وقيل تميم{[40258]} ، وروى شبل عن كثير بياء بعد نون مفتوحة{[40259]} ، وهذا على لغة من يفتح نون التثنية ، كقوله :

3994 - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً *** فَمَا هِيَ إِلاَّ لَمْحَةٌ وتغِيبُ{[40260]}

والياء بدل من إحدى النونين ( كَتَظَنَّيْتُ ){[40261]} {[40262]} .

وقرأ عبد الله بتشديد النون وياء بعدها ، ونسبت لهذيل{[40263]} . قال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها{[40264]} ، وكأن الكسرة هنا إشباع كقراءة هشام { أَفْئِدَةً مِنَ الناس }{[40265]} [ إبراهيم : 37 ] . و «ذَانِكَ » إشارة إلى العصا واليد ، وهما مؤنثتان ، وإنما ذكَّر ما أشير به{[40266]} إليهما لتذكير خبرهما وهو «بُرْهَانَان » ، كما أنه قد يؤنث لتأنيث خبره كقراءة { ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلاَّ أَن قَالُوا } [ الأنعام : 23 ] فيمن أَنَّثَ ونصب «فِتْنَتُهُمْ »{[40267]} وكذا قوله :

3995 - وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ الغَدْرُ{[40268]} *** . . .

وتقدم إيضاح هذا في الأنعام{[40269]} . والبرهان تقدم اشتقاقه{[40270]} ، وهو الحجة ، وقال الزمخشري هنا : فإنت قُلتَ : لم سميت الحجةُ برهاناً ؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم ( للمرأة البياض ){[40271]} برهرهة ، بتكرير العين واللام ، والدليل على زيادة النون قولهم أَبْره{[40272]} الرجلُ إذا جاء بالبرهان ، ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السَّليط وهو الزيت لإنارتها{[40273]} .

قوله «إلَى فِرْعَوْنَ » متعلق بمحذوف ، فقدره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون{[40274]} ، وغيره : اذْهَب{[40275]} إلى فرعون ، وهذا المقدر ينبغي أن يكون حالاً من «بُرْهَانَانِ » أي : مرسلاً بهما إلى فرعون ، والعامل في هذه الحال ما في اسم الإشارة .


[40214]:في النسختين: واسلك.
[40215]:انظر الفخر الرازي 24/247.
[40216]:في الآية السابقة.
[40217]:في الأصل: أو.
[40218]:انظر التبيان 2/1020.
[40219]:السبعة (493)، الكشف 2/172، النشر 2/341، الإتحاف (342).
[40220]:في الأصل: وحسن.
[40221]:المختصر (112).
[40222]:انظر الكشف 2/173، التبيان 2/1020.
[40223]:قيل: سقط من ب.
[40224]:انظر القرطبي 13/284، البحر المحيط 7/117.
[40225]:في ب: الفصل.
[40226]:الزرمانقة: جبَّة من صوف وهي عجمية معرَّبة. اللسان (زرمق).
[40227]:الكشاف 3/166.
[40228]:البحر المحيط 7/118.
[40229]:الدر المصون 5/219.
[40230]:الكشاف 3/166.
[40231]:في ب: قال الزمخشري في قوله.
[40232]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40233]:في ب: والواها.
[40234]:فيه: سقط من الأصل.
[40235]:في الكشاف: فكما تنقلب.
[40236]:في الكشاف: يدك تحت عضدك.
[40237]:في الكشاف: ما هو.
[40238]:في الكشاف: عضد يده.
[40239]:في ب: إليها.
[40240]:في الكشاف: جناحه إليه.
[40241]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[40242]:في ب: جناحه.
[40243]:في الكشاف: أي إذا.
[40244]:ما بين القوسين تكملة من الكشاف.
[40245]:في الكشاف: ولكن.
[40246]:في الكشاف: وإنما كرر المعنى الواحد.
[40247]:الكشاف 3/165-166.
[40248]:في ب: معناه.
[40249]:ما بين القوسين سقط من ب.
[40250]:في الأصل: واخفض عليك جناحك.
[40251]:في الأصل: يديه.
[40252]:معاني القرآن 2/306.
[40253]:انظر البغوي 6/339-340.
[40254]:قراءة: سقط من الأصل.
[40255]:عند قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} من الآية (16) فقرأ ابن كثير وأبو عمرو "فذانِّك" مشددة النون، والباقون بالتخفيف. انظر السبعة (229) الكشف 1/381. وانظر اللباب 3/37.
[40256]:هو أبو نوفل بن أبي عقرب العرنجي اسم مسلم، أو عمرو بن مسلم، أخذ عن عائشة، وابن عمر، وأخذ عنه عبد الملك بن عمير وابن جدعان.
[40257]:انظر البحر المحيط 7/118.
[40258]:المرجع السابق.
[40259]:المختصر (113)، البحر المحيط 7/118.
[40260]:البيت من بحر الطويل قاله حميد بن ثورٍ، وهو في ديوانه (55) ابن يعيش 4/141 المقرب (400)، البحر المحيط 7/118، المقاصد النحوية 1/177، شرح التصريح 1/78، الهمع 1/49، الأشموني 1/90، الدرر 1/21. الأحوذيّ: الخفيف في المشي، وأراد بهما ههنا جناحي قطاة يصفهما لخفتهما، استقلت: ارتفعت في الهواء. فما هي: فما مشاهدتها، ثم حذف المضاف فانفصل الضمير وارتفع. والشاهد فيه فتح نون المثنى في قوله: (أحوذيَّين) وهي لغة أسد حكاها الكسائي والفراء.
[40261]:انظر البيان 2/233، التبيان 2/1020.
[40262]:ما بين القوسين سقط من ب.
[40263]:انظر البحر المحيط 7/118.
[40264]:المرجع السابق.
[40265]:انظر البحر المحيط 5/432.
[40266]:في ب: بهما.
[40267]:وهي قراءة نافع، وأبي عمرو، وأبي بكر عن عاصم وخلف وغيره عن عبيد عن شبل عن ابن كثير. السبعة (255)، الكشف 1/426، البحر المحيط 7/118.
[40268]:عجز بيت من بحر الطويل قاله أعشى تغلب، وصدره: ألم يك غدراً ما فعلتم بشمعل وقد تقدم.
[40269]:عند قوله تعالى: {ثمَّ لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا} من الآية (23).
[40270]:عند قوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم} [البقرة: 111].
[40271]:ما بين القوسين سقط من ب.
[40272]:في ب: ابن. وهو تحريف.
[40273]:في النسختين: لإنارته، والتصويب من الكشاف. انظر الكشاف 3/166.
[40274]:التبيان 2/1020، وسبقه إلى هذا التقدير ابن الأنباري. البيان 2/233.
[40275]:في ب: ذهب. وهو تحريف.