وقوله : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سوء } فقد عبّر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : إحداها هذه ، وثانيها { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ }{[40214]} ، وثالثها { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ النمل : 12 ] قوله «مِنَ الرَّهْبِ » متعلق بأحد أربعة أشياء ، إمّا ب «وَلَّى »{[40215]} ، وإمَّا ب «مُدْبراً »{[40216]} ، وإمَّا ب «اضمم » ، ويظهر هذا الثالث إذا فسَّرنا الرَّهب بالكمِّ ، وإمّا{[40217]} بمحذوف أي : تسكن من الرهب{[40218]} وقرأ حفص بفتح الراء وإسكان الهاء . والأخوان وابن عامر وأبو بكر بالضم والإسكان ، والباقون بفتحتين{[40219]} ، والحسن{[40220]} وعيسى والجحدري وقتادة بضمتين{[40221]} وكلها لغات{[40222]} بمعنى الخوف وقيل{[40223]} هو بفتحتين الكُمُّ بلغة حمير وحنيفة{[40224]} ، قال الزمخشري «هُو من بدِع التفاسير » قال : وليت شعري كيف صحته في اللغة ، وهل سُمِعَ من الثقات الأثبات التي تُرْتَضى عربيتهم ، أم ليت شعري كيف موقعه في الآية ، وكيف تطبيقه المفضل{[40225]} كسائر كلمات التنزيل ، على أن موسى صلوات الله عليه ليلة المناجاة ما كان عليه إلاَّ زُرْمانِقَة{[40226]} من صُوفٍ لا كُمّ لها{[40227]} .
الزُّرمانقة : المدرعةُ . قال أبو حيان : هذا مروي عن الأصمعي ، وهو ثقة ، سمعتهم يقولون أعطني ما في رهبك أي كُمِّكَ ، وأما قوله : كيف موقعه ؟ فقالوا : معناه : أخرج يدكّ من كُمِّكَ{[40228]} .
قال شهاب الدين : كيف يستقيم هذا التفسير ، يُفَسِّرُون «اضْمُمْ » بمعنى أَخْرِج{[40229]} .
وقال الزمخشري : فإن قُلْتَ : قد جعل الجناح وهو اليَدُ في أحد الموضعين مضموماً ، وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وقوله { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم : هو اليد اليمنى ، وبالجناح المضموم إليه هو اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح{[40230]} .
قال الزمخشري{[40231]} : في { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } معنيان :
أحدهما : أنّ موسى عليه السلام{[40232]} لمَّا قلب الله له العصا حيَّةً فزع واضطر واتقاها{[40233]} بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إنَّ اتقاءك بيدك فيه{[40234]} غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها وقد انقلبت{[40235]} حية فأدخل يدك{[40236]} مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما منه{[40237]} غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد ، لأن يد الإنسان بمنزلة جناح الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد{[40238]} اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه{[40239]} .
( الثاني : أن يراد بضم جناحه{[40240]} تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حيَّة حتى لا يضطرب ){[40241]} ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نَشَرَ جناحيه{[40242]} وأرخاهُما ، وإلا فجناحاه منضمان إليه مستمران ومعنى قوله «مِنَ الرَّهْب » أي : من أجل الرهب إذا{[40243]} أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ( ومعنى { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } ){[40244]} وقوله «اسْلُكْ يَدَكَ » على أحد التفسيرين واحد ، وإنما{[40245]} خُولِفَ بين العبارتين وكرَّر المعنى{[40246]} لاختلاف الغرضين ، وذلك أنَّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب{[40247]} . قال البغوي : المعنى{[40248]} إذا هَالَك أمر يدك وما ترى من شعاعها ، فأدخِلْها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى ، والجناح اليد كلها وقيل : العضد . وقال عطاء عن ابن عباس : مره الله ( أن يَضُمَّ ){[40249]} يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية . وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه .
وقال مجاهد : كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع ، وقيل : المراد من ضم الجناح السكون ، أي : سكّن روعَك واحفظ عليك جأشك{[40250]} ، لأن من شأن الخائف أن يضطرب عليه قلبه وترتعد يداه{[40251]} ، ومثله قوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل } [ الإسراء : 24 ] يريد : المرفق ، وقوله : { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك } [ الشعراء : 215 ] أي : ارفق بهم وأَلِنْ جانبك لهم ، وقال الفراء : أراد بالجناح العصا{[40252]} ، معناه : واضمُمْ إليك عَصَاك{[40253]} .
قوله : «فَذانك » تقدم قراءة{[40254]} التخفيف والتثقيل في النساء{[40255]} ، وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل{[40256]} بياء بعد نون مكسورة ، وهي لغة هذيل{[40257]} ، وقيل تميم{[40258]} ، وروى شبل عن كثير بياء بعد نون مفتوحة{[40259]} ، وهذا على لغة من يفتح نون التثنية ، كقوله :
3994 - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً *** فَمَا هِيَ إِلاَّ لَمْحَةٌ وتغِيبُ{[40260]}
والياء بدل من إحدى النونين ( كَتَظَنَّيْتُ ){[40261]} {[40262]} .
وقرأ عبد الله بتشديد النون وياء بعدها ، ونسبت لهذيل{[40263]} . قال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها{[40264]} ، وكأن الكسرة هنا إشباع كقراءة هشام { أَفْئِدَةً مِنَ الناس }{[40265]} [ إبراهيم : 37 ] . و «ذَانِكَ » إشارة إلى العصا واليد ، وهما مؤنثتان ، وإنما ذكَّر ما أشير به{[40266]} إليهما لتذكير خبرهما وهو «بُرْهَانَان » ، كما أنه قد يؤنث لتأنيث خبره كقراءة { ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلاَّ أَن قَالُوا } [ الأنعام : 23 ] فيمن أَنَّثَ ونصب «فِتْنَتُهُمْ »{[40267]} وكذا قوله :
3995 - وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ الغَدْرُ{[40268]} *** . . .
وتقدم إيضاح هذا في الأنعام{[40269]} . والبرهان تقدم اشتقاقه{[40270]} ، وهو الحجة ، وقال الزمخشري هنا : فإنت قُلتَ : لم سميت الحجةُ برهاناً ؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم ( للمرأة البياض ){[40271]} برهرهة ، بتكرير العين واللام ، والدليل على زيادة النون قولهم أَبْره{[40272]} الرجلُ إذا جاء بالبرهان ، ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السَّليط وهو الزيت لإنارتها{[40273]} .
قوله «إلَى فِرْعَوْنَ » متعلق بمحذوف ، فقدره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون{[40274]} ، وغيره : اذْهَب{[40275]} إلى فرعون ، وهذا المقدر ينبغي أن يكون حالاً من «بُرْهَانَانِ » أي : مرسلاً بهما إلى فرعون ، والعامل في هذه الحال ما في اسم الإشارة .