الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

و { الرهب } بفتحتين ، وضمتين ، وفتح وسكون ، وضم وسكون : وهو الخوف .

فإن قلت : ما معنى قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : أنّ موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية : فزع واضطرب ، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إنّ إتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء . فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية ، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى . والمراد بالجناح : اليد ؛ لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر . وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى ، فقد ضمّ جناحه إليه . والثاني : أن يراد بضم جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه . وتشدّده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما . وإلا فجناحاه مضمومتان إليه مشمران . ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أنّ كاتباً له كان يكتب بين يديه ، فانفلتت منه فلتة ريح ، فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض ، فقال له عمر : خذ قلمك ، واضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك ، فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي . ومعنى قوله : ( من الرهب ) من أجل الرهب ، أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك : جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } ، وقوله : { اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } على أحد التفسيرين : واحد . ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرّر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني : إخفاء الرهب . فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وقوله :

{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم . هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه : اليد اليسرى وكلّ واحدة من يمنى اليدين ويسراهما : جناح . ومن بدع التفاسير : أنّ الرهب : الكم ، بلغة حمير وأنهم يقولون : أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة ؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم ؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية ؟ وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل ؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمي لها { فَذَانِكَ } قرىء مخففاً ومشدّداً ، فالمخفف مثنى ذاك . والمشدّد مثنى ذلك ، { برهانان } حجتان بينتان نيرتان .

فإن قلت : لم سميت الحجة برهانا ؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء . برهرهة ، بتكرير العين واللام معا . والدليل على زيادة النون قولهم : أبره الرجل ، إذا جاء بالبرهان . ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت ، لإنارتها .