في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{ٱسۡلُكۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖ وَٱضۡمُمۡ إِلَيۡكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهۡبِۖ فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (32)

29

( اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) . .

وأطاع موسى الأمر ، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها . فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة . إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض ، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة . إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل .

وأدركت موسى طبيعته . فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة . ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة . ذلك أن يضم يده على قلبه ، فتخفض من دقاته ، وتطامن من خفقاته :

( واضمم إليك جناحك من الرهب ) . .

وكأنما يده جناح يقبضه على صدره ، كما يطمئن الطائر فيطبق جناحه . والرفرفة أشبه بالخفقان ، والقبض أشبه بالإطمئنان . والتعبير يرسم هذه الصورة على طريقة القرآن .

والآن وقد تلقى موسى ما تلقى ، وقد شاهد كذلك ما شاهد ، وقد رأى الآيتين الخارقتين ، وقد ارتجف لهما ثم اطمأن . . الآن يعرف ما وراء الآيات ، والآن يتلقى التكليف الذي كان يعد من طفولته الباكرة ليتلقاه . .

( فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه . إنهم كانوا قوما فاسقين ) . .

وإذن فهي الرسالة إلى فرعون وملئه . وإذن فهو الوعد الذي تلقته أم موسى وهو طفل رضيع : ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) . . الوعد اليقين الذي انقضت عليه السنون . وعد الله لا يخلف الله وعده وهو أصدق القائلين .