المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} (83)

وقوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن } الآية ، قال جمهور المفسرين : الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم ، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه ، والمعنى : أن المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي في سراياه ، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم ، حقروها وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير ، وإذا طرأت لهم شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم ، و { أذاعوا به } معناه : أفشوه ، وهو فعل يتعدى بحرف جر وبنفسه أحياناً ، تقول أذعت كذا وأذعت به ، ومنه قول أبي الأسود : [ الطويل ]

أَذَاعُوا بِهِ في النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ *** بِعَلْيَاءِ نَارٍ أَوقِدَتْ بِثُقُوبِ{[4166]}

وقالت فرقة : الآية نازلة في المنافقين ، وفي من ضعف جلده عن الإيمان من المؤمنين وقلت تجربته .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين فيقولونها مع من قالها ، ويذيعونها مع من أذاعها ، وهم غير متثبتين في صحتها ، وهذا هو الدال على قلة تجربتهم ، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة ، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنه جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، قال : فدخلت على عائشة فقلت : يابنة أبي بكر بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : يابن الخطاب عليك بعيبتك{[4167]} ، قال : فدخلت على حفصة فقلت : يا حفصة قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبك ولولا أنا لطلقك فجعلت تبكي قال فخرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غرفة له ، ورباح مولاه جالس على أسكفة{[4168]} الغرفة ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله ، فنظر إلى الغرفة ثم نظر إليَّ وسكت ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله فلعله يظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لو أمرني أن أضرب عنقها لضربته ، فنظر ثم أشار إليَّ بيده : أن ادخل ، فدخلت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على حصير وقد أثر في جنبه ، وإذ ليس في غرفته إلا قبضة من شعير ، وقبضة من قرظ ، وإذا أفيقان معلقان ، فبكيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يابن الخطاب ؟ فقلت : يارسول الله ، أنت صفوة الله من خلقه ورسوله ، وليس لك من الدنيا إلا هذا ، وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار ، فقال : ها هنا أنت ياعمر ؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ فقلت : بلى ، ثم جعلت أحدثه حتى تهلل وابتسم ، فقلت إنهم ادعوا أنك طلقت نساءك ، فقال :لا ، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس ؟ فقال :افعل إن شئت . قال :فقمت على باب المسجد فقلت : ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه ، فانزل الله في هذه القصة :{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } . الآية وأنا الذي استنبطه ،

وقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول }الآية . المعنى : لو أمسكوا عن الخوض ، واستقصوا الأمور من قبل الرسول ، أو أولي الأمر_وهم الأمراء_ قاله السدي ، وابن زيد ، وقيل :أهل العلم ، قاله

وغيرهما ، والمعنى يقتضيهما معا . . { لعلمه }طلابه من أولي الأمر ، والبحثة عنه وهم مستنبطوه كما يستنبط الماء وهو :النبط ، أي :الماء المستخرج من الأرض ، ومنه قول الشاعر :

قريب ثراه ما ينال عدوه *** *** له نبطا آبي الهوان قطوب

وهذا التأويل جار مع قول عمر ، أنا استنبطته ببحثي وسؤالي ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى لعلمه المسؤولون المستنبطون ، فأخبروا بعلمهم ، وقرأ أبو السمال ، «لعلْمه » بسكون اللام وذلك مثل «شجَر{[4169]} بينهم » والضمير في { ردوه } عائد على الأمر ، وفي { ومنهم } يحتمل أن يعود على { الرسول } و { أولي الأمر } ، ويحتمل أن يعود على الجماعة كلها ، أي لعلمه البحثة من الناس ، وقوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } الآية ، هذا خطاب لجميع المؤمنين باتفاق من المتأولين ، والمعنى : ولولا هداية الله وإرشاده لكم بالإيمان وذلك فضل منه ورحمة - لكنتم على كفركم ، وذلك هو اتباع الشيطان . وحكى الزجاج : لولا فضل الله في هذا القرآن ورسالة محمد عليه السلام ، واختلف المتأولون في الاستثناء بقوله { إلا قليلاً } مم هو ؟ فقال ابن عباس وابن زيد : ذلك مستثنى من قوله : «أذاعوا به إلا قليلاً » ورجحه الطبري ، وقال قتادة : ذلك مستثنى من قوله : «يستنبطونه إلا قليلاً » وقالت فرقة : ذلك مستثنى من قوله : { لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } ، على سرد الكلام دون تقدير تقديم ، ثم اختلفت هذه الفرقة ، فقال الضحاك : إن الله هدى الكل منهم إلى الإيمان ، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ، فذلك هو القليل ، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلولا فضل الله بتجديد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان .

قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الضحاك ، ويجيء الفضل معيناً ، أي :رسالة محمد والقرآن ، لأن الكل إنما هُدي بفضل الله على الإطلاق ، وقال قوم : المخاطب بقوله { اتبعتم } جميع المؤمنين ، وقوله : { إلا قليلاً } إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ، كورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وغيرهما ، وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الإتباع ، أي { لاتبعتم الشيطان } كلكم { إلا قليلاً } من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، وقال قوم : قوله : { إلا قليلاً } عبارة عن العدم ، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم ، وهذا الأخير قول قلق ، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم :_أرض قل ما تنبت كذا_بمعنى :لا تنبته ، لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ، ولكن قد ذكره الطبري .


[4166]:- العلياء: رأس الجبل، والمكان العالي، والثقوب والثقاب: ما أشعلت به النار وأثقبت من دقاق العيدان، يقال: هب لي ثقوبا أي: حراقا، وهو ما أثقبت به النار أي: أوقدتها به. (عن اللسان.
[4167]:- أي: اشتغل بأهلك ودعني. (عن اللسان).
[4168]:- الأسكفّة: بضم الهمزة، وسكون السين، وضم الكاف، وتشديد الفاء المفتوحة على وزن (طرطبّة): خشبة الباب التي يوطأ عليها. والمعروفة الآن باسم: (العتبة).
[4169]:- قال أبو حيان: "ليس مثله، لأن تسكين (علم) قياس مطرد في لغة تميم، و(شجر) ليس قياسا مطردا، إنما هو على سبيل الشذوذ، وتسكين (علم) مثل التسكين في قوله: فإن تبله يضجر كما ضجر بازل من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه