محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} (83)

ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعا آخر من مفاسدهم . وهو إظهارهم أسرارا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومبادرتهم بأخبار السرايا واذاعتها ، بقوله تعالى :

/ ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا83 )

( واذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ) أي : مما يوجب أحدهما ( أذاعوا به ) أي : أفشوه . فتعود اذاعتهم مفسدة من وجوه :

الأول : أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير .

والثاني : أنه إن ذلك الخبر في جانب الأمن ، زادوا فيه زيادات كثيرة . فإذا لم توجد تلك الزيادات ، أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم . لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول . وان كان ذلك في جانب الخوف ، تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب ، فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه .

والثالث : أن الارجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام . وذلك سبب لظهور الأسرار . وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة .

والرابع : أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار . فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني . فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم ، أرجف المنافقون بذلك . فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار . فأخذوا في التحصن من المسلمين ، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم . وان وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين . فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئا للفتن والآفات من كل الوجوه . ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير ، ومنعهم منه . أفاده الرازي . ( ولو ردوه ) أي ذلك الأمر الذي جاءهم ( إلى الرسول والى أولي الأمر منهم ) وهم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضي الله عنهم ، أو الذين يؤمرون منهم وكانوا كأن لم يسمعوا ( لعلمه ) أي : الأمر / ( الذين يستنبطونه ) أي يستعملونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون ( منهم ) أي من الرسول وأولي الأمر . يعني لو أنهم قالوا : نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه ، ونعرف الحال فيه من جهتهم ، لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا ؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير ، يعني لم يقل ( لعلموه ) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام . أو لذمهم أو للتنبيه على خطأهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر .

قال الناصر في ( الانتصاف ) : في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع . وكفى به كذبا . وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو . وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم ، خيرا أو غيره . انتهى .

وقد روى مسلم{[2009]} عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع " . وعند أبي داود {[2010]}والحاكم عنه : " كفى بالمرء اثما " . ورواه الحاكم أيضا عن أبي أمامة .

هذا ، ونقل الرازي وجها آخر في الموصول . وهو أن المعني به طائفة من أولي الأمر . قال : والتقدير : ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر . وذلك لأن أولي الأمر فريقان : بعضهم من يكون مستنبطا وبعضهم من لا يكون كذلك . فقوله " منهم " يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر . فإن قيل : إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول والى أولي الأمر هم المنافقون ، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله : ( والى أولي الأمر منهم ) ؟ قلنا : إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر . لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون . ونظيره قوله تعالى : ( وان منكم لمن يبطئن ) {[2011]} . وقوله : ( ما فعلوه إلا قليل منهم ) . انتهى .

وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطي في ( الاكليل ) : قوله تعالى : ( ولو ردوه ) . . . الآية ، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد . وقول المهايمي : فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف ، لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر ، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق . وقال بعض الامامية : ثمرة الآية انه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين . وأن إذاعته قبيحة . وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته . وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين . وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا . وتدل على صحة القياس والاجتهاد . لأنه استنباط . انتهى .

تنبيه :

ما نقله الزمخشري وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم ، من أن قوله تعالى : ( وإذا جاءهم ) عنى به طائفة من ضعفة المسلمين – فإن أرادوا بالضعفة المنافقين ، فصحيح . وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها . وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناها . فكله لم يصب المرمى . والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول . ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه . فتبصر ولا تكن أسير التقليد . ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ( لاتبعتم الشيطان ) بالكفر والضلال ( إلا قليلا ) أي : إلا قليلا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب ، وعصمه عن متابعة الشيطان . كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة . كقس بن ساعدة وأضرابه . وهم عشرة . وقد أوضحت شانهم في كتابي ( ايضاح الفطرة في أهل الفترة ) في ( الفصل / الرابع عشر ) فانظره . ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بفضل الله ورحمته ، هنا ، هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم : ( فأفوز فوزا عظيما " . أي : لولا تتابع النصرة والظفر لاتبعتم الشيطان وتوليتم الا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذين يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين . واستحسن هذا الوجه الرازي وقال : هو الأقرب إلى التحقيق . قال الخفاجي : لارتباطه بما بعده . هذا ، وزعم بعضهم أن قوله تعالى : ( إلا قليلا ) مستثنى من قوله : ( أذاعوه ) أو ( لعلمه ) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله . قال : لأنه لو كان مستثنى من جملة ( اتبعتم ) فسد المعنى لأنه يصير عدم إتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله . وهو لا يستقيم . وبيان لزومه أن ( لولا ) حرف امتناع لوجود . وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان . فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الأتباع عن البعض المستثنى ، ضرورة . وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم . ألا تراك إذا قلت ( لمن تذكره بحقك عليه ) : لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا ، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب . وانما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله ، لا في كله . من المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان ، الا بفضله تعالى عليه . هذا ملخص ما قرره صاحب ( الانتصاف ) ، وهول فيه . ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه ، أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه . واللازم ممنوع . لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص . وهو ما بيناه . فإن عدم الاتباع ، إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص ، لا ينافي أن يكون بفضل آخر .


[2009]:في المقدمة، حديث رقم 5 (طبعتنا).
[2010]:أخرجه أبو داود في: 40 –كتاب الأدب، 80 –باب في التشديد في الكذب، حديث 4992.
[2011]:|4/ النساء/ 72| ونصها: (وان منكم لمن ليبطئن فان أصابتهم مصيبة قال قد أنعم الله على اذ لم أكن معهم شهيدا72).