الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} (83)

قوله تعالى : { أَذَاعُواْ بِهِ } : جواب إذا ، وعَيْنُ أذاع ياء لقولهم : ذاع الشيءَ يذِيع ، ويُقال : أذاع الشيء أيضاً بمعنى المجرد ، ويكونُ متعدياً بنفسه وبالباء ، وعليه الآيةُ الكريمة ، وقيل : ضَمَّن " أذاع " معنى " تَحَدَّثَ " فَعدَّاه تعديتَه أي : تحدَّثوا به مذيعين له . والإِذاعة : الإِشاعةُ ، قال أبو الأسود :

أذاعُوا به في الناسِ حتى كأنه *** بِعَلْياءِ نار أُوقِدَتْ بثَقُوب

والضميرُ في " به " يجوزُ أن يعودَ على الأمر ، وأن يعودَ على الأمن أو الخوفِ ؛ لأنَّ العطفَ ب " أو " ، والضميرُ في " رَدُّوه " للأمر فقط . والاستنباط : الاستخراج ، وكذا الإِنباط قال :

نَعَمْ صادقاً والفاعلُ القائلُ الذي *** إذا قال قَوْلاً أنبطَ الماءَ في الثَّرى

/ ويقال : نَبَطَ الماءُ يَنْبطُ بفتحِ الباءِ وضَمِّها ، والنَّبَط : الماءُ الذي يَخْرج من البئرِ أولَ حَفْرِها . والنَّبَط أيضاً " جيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك لأنهم يستخرجون المياه والنبات . ويقال في الرجل الذي يكون بعيد العِزِّ والمنعة : " ما يَجِدُ عدوُّه له نَبَطاً " قال كعب :

قريبٌ ثَراه ما ينال عدوُّه *** له نَبَطاً ، آبيْ الهوانِ قَطُوبُ

و " منهم " حال : إمَّا من الذين ، أو من الضمير في " يستنبطونه " فيتعلق بمحذوف . وقرأ أبو السمَّال : " لَعَلْمه " بسكون اللام ، قال ابن عطية : " هو كتسكين

{ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }

[ النساء : 65 ] . وليس مثله ؛ لأن تسكين فَعِل بكسر العين مقيسٌ ، وتسكينَ مفتوحِها شاذٌّ ، ومثلُ تسكين " لَعَلْمه " قوله :

فإنْ تَبْلُه يَضْجَرْ كما ضَجْرَ بازِلٌ *** من الأُدْمِ دُبْرَتْ صَفْحَتاه وغارِبُه

أي : دَبِرت ، فسكَّن .

قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه عشرةُ أوجه ، أحدها : أنه مستثنى من فاعل " اتَّبعتم " أي : لاتبعتم الشيطانَ إلا قليلاً منكم ، فإنه لم يَتَّبع الشيطان ، على تقديرِ كونِ فَضْل الله لم يأتِه ، ويكونُ أراد بالفضل إرسالَ محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك القليلُ كقِسِّ بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ، مِمَّن كان على دين المسيح قبل بعثة الرسول . وقيل : المرادُ مَنْ لم يبلغ التكليفَ ، وعلى هذا التأويل قيل : فالاستثناء منقطع ؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت الخطاب ، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر . الثاني : أنه مستثنى من فاعل " أذاعوا " أي : أظهروا أمرَ الأمن او الخوف إلا قليلاً . الثالث : أنه مستثنى من فاعل " عَلِمه " أي : لعلمه المستنبطون منهم إلا قليلاً . الرابع : أنه مستثنى من فاعل " لوجدوا " أي لوجدوا فيما هو من غير الله التناقضَ إلا قليلاً منهم ، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النظرَ ، فيظنَّ الباطلَ حقاً والمتناقضَ موافقاً . الخامس : أنه مستثنى من الضمير المجرور في " عليكم " وتأويلُه كتأويل الوجه الأول .

السادس : أنه مستنثى من فاعل " يستنبطونه " وتأويله كتأويل الوجه الثالث . السابع : أنه مستثنى من المصدر الدالِّ عليه الفعلُ ، والتقدير : لاتَبَعْتُمْ الشيطانَ إلا اتباعاً قليلاً ، ذكر ذلك الزمخشري . الثامن : أنه مستثنى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها ، فالمعنى : لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا في قليلٍ من الأمور ، فإنكم كنتم لا تتبعونه فيها ، وعلى هذا فهو استثناء مفرغ ، ذكر ذلك ابن عطية ، إلا أنَّ في كلامِه مناقشةً وهو أنه قال " أي : لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها " فجعله هنا مستثنى من المتَّبعِ فيه المحذوف على ما تقدم تقريره ، وكان قد تقدَّم أنه مستثنى من الإتِّباع ، فتقديرُه يؤدي إلى استثنائِه من المتَّبع فيه ، وادعاؤه أنه استثناء من الاتباع ، وهما غَيْران . التاسع : أن المراد بالقلة العدمُ ، يريد : لاتبعتم الشيطان كلكم وعدم تخلُّفِ أحدٍ منكم ، نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطبري ، ورَدَّه بأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي دخولَها ، قال : " وهذا كلامٌ قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : " هذه أرضٌ قَلَّ ما تنبت كذا " أي لا تنبت شيئاً . وهذا الذي قاله صحيح ، إلا أنه كان تقدم له في البقرة في قوله تعالى { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] أن التقليل هنا بمعنى العدم ، وتقدَّم الردُّ عليه هناك فَتَنَبَّهَ لهذا المعنى هنا ولم يتنبهْ له هناك . العاشر : أن المخاطبَ بقوله " لاتبعتم " جميعُ الناس على العموم ، والمرادُ بالقليلِ أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وأيَّد صاحبُ هذا القولِ قولَه بقولِه عليه السلام " ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالرَّقْمة البيضاء في الثور الأسود " .