وهذا نوع آخر من أعْمَال المُنَافِقِين الفَاسِدة ، وذَلِك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَبْعَث السَّرايا فإذا غَلَبُوا أو غَُلِبُوا بَادَرَ{[8967]} المُنَافِقون يستَخْبِرُونَ عن حَالِهِم ، فَيُفْشُون ويُحَدِّثُون به قَبْل أنْ يُحْدِّثَ به رسُول الله صلى الله عليه وسلم فَيُضْعِفُون به قُلُوبَ المُؤمِنين ، فأنْزَل الله - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ } يعني : المُنَافِقِين " أمر من الأمن " أي : الفَتْح والغَنِيمَة " أو الخوف " أي : القتل{[8968]} والهزيمَة " أذاعوا به " أشاعُوه وأفشوْه ، وذلك سَبَبٌ للضَّرر من وُجُوهٍ :
أحدها : أن مِثْل هذه الإرْجَافَات لا تنفَكُّ عن الكَذِب .
وثانيها : إن كان ذلك الخَبَر من جَانِبِ الأمْن زَادُوا{[8969]} فيه زِيَادات كَثِيرة ، [ فإذا لَمْ تُوجد تلك الزَّيَادات ، أوْرَث ذلك شُبْهَة للضُّعَفَاءِ في صدق الرَّسول - عليه السلام- ]{[8970]} ؛ لأن المنافِقِين كانوا يروون{[8971]} تلك الإرْجَافَات عن الرسُول ، وإن كان ذَلِك الخَبَر خَوْفاً ، تشوَّشَ الأمر على ضُعَفَاء المُسْلِمين بسبَبِه ، ووقعوا في الحَيْرَة والاضْطراب ، فكان ذلك سَبَباً للفِتْنَة .
وثالثها : أن العَداوَة الشَّدِيدة كانت قَائِمَةً بين المُسْلِمين وبين الكُفَّار ، فكان{[8972]} كلّ وَاحِد من الفريقين مُجدًّا في إعْداد آلات الحَرْب وانْتِهَاز الفُرْصَة ، فكل ما كان [ أمْناً ]{[8973]} لأحد الفَرِيقَيْن ، كان خَوْفاً للفَريقِ الثَّانِي ، وإن [ وقع خَبر الأمْن للمُسْلِمين ، أرجَفَ بذلك المُنَافِقُون ، فوصل الخَبَر في أسْرَع مُدَّة إلى الكُفَّار ؛ فاحترزوا وتحصَّنُوا من المُسْلمين ، وإن ]{[8974]} وَقَعَ خبر الخَوْف للمُسْلِمِين بالَغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألْقوا الرُّعب في قُلُوب الضَّعْفَة ، فظهر أن الإرْجَافَ مَنْشَأ الفِتَنِ والآفَاتِ{[8975]} .
قوله : { أَذَاعُواْ بِهِ } : جواب إذا ، وعَيْنُ أذَاعَ ياء ؛ لقولهم : ذاع الشَّيء يذِيع ، ويُقال : أذاع الشَّيْء ، أيضاً بمعنى المُجَرَّد ، ويكونُ متعدِّياً بنفسه وبالبَاءِ ، وعليه الآيةُ الكريمة ، وقيل : ضَمَّن " أذاع " مَعْنَى " تَحَدَّثَ " فعدَّاه تعديتَه ، أي : تحدَّثوا به مُذيعين له ، والإذاعة : الإشاعةُ ، قال أبو الأسْوَد : [ الطويل ]
ب- أذَاعُوا بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأنَّهُ *** بِعَلْيَاءَ نَارٌ أوقِدَتْ بِثُقُوبِ{[8976]}
والضَّمِيرُ في " به " يجُوزُ أن يعودَ على الأمْر ، وأن يعُودَ على الأمن أو الخَوْفِ ؛ لأنَّ العَطْفَ ب " أو " والضَّميرُ في " رَدُّوهُ " للأمْر .
قوله : " لو ردوه " أي الأمْر ، " إلى الرسول " أي : [ لَمْ ]{[8977]} يحدِّثوا به حَتَّى يكُون النَّبي{[8978]} صلى الله عليه وسلم هو الذِي يُحدِّث به ، و " إلى أولي الأمر [ منهم ]{[8979]} " أي : ذَوِي الرأي{[8980]} من الصَّحَابة ؛ مثل أبي بكْر وعُمر وعُثْمَان وعلي ، وقيل : أمَرَاء السَّرَايا ؛ لأنَّهم الَّذِين لَهُم أمر على النَّاسِ ، وأهل العِلْم لَيْسوا كذلِك .
وأجيب عن هَذَا : بأن العُلَمَاء يجبُ على غَيْرِهم قُبُول قولِهِم ؛ لقوله - تعالى - :
{ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] فأوجب الحَذَر بإنْذَارِهِم ، وألزَم المُنْذرين قُبُول قولهم ، فجاز لهذا المَعْنَى إطْلاق اسم أولي الأمْرِ عَلَيهم .
قوله : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخْرِجُونه ، وهُم العُلَماء عَلِمُوا ما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَم ، وما يَنْبَغِي أن يُفْشَى ، والاستِنْبَاط في اللُّغَةِ : الاستِخْراج ، وكذا " الإنباط " يقال : استَنْبَطَ الفَقِيهُ : إذا استَخْرَجَ الفِقْهَ البَاطِنَ باجْتِهَادِهِ وفهمه ، وأصله من النّبط وهو الماءُ الذي يَخْرج من البَئْرِ أوّلَ حَفْرها قال : [ الطويل ]
نَعَمْ صَادِقاً والفَاعِلُ القَائِلُ الذي *** إذَا قَالَ قَوْلاً أنْبَطَ المَاءَ في الثَّرَى{[8981]}
ويقال : نَبَطَ المَاءُ يَنْبطُ بفتحِ البَاءِ وضمها .
والنبط أيضاً : جِيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك ؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات . ويقال في الرَّجُل الذي يكُونَ بعيد العِزِّ والمنعة : " ما يجِدُ عَدُوُّه لَهُ نَبَطاً " . قال كَعْبٌ : [ الطويل ]
قَرِيبٌ ثَرَاهُ مَا يَنَالُ عَدُوُّهُ *** لَهُ نَبَطاً ، آبِي الْهَوَانِ قَطُوبُ{[8982]}
و " منهم " حَالٌ : إمَّا من الَّذِين ، أو من الضَّمير في " يَسْتَنْبِطُونه " فيتعلق بمَحْذُوفٍ .
وقرأ أبو السَّمال{[8983]} : " لَعَلْمه " بسُكُون اللام ، قال ابن عَطِيَّة{[8984]} : هو كتَسْكِين { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] وليس مِثْله ؛ لأنَّ تسْكِين فعل بكَسْر العين مَقِيسٌ ، وتسكينَ مَفْتُوحها شاذٌّ ؛ ومثلُ تسكين " لَعَلْمَهُ " قوله : [ الطويل ]
فَإنْ تَبْلُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ *** مِنَ الأدمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وغَارِبُهْ{[8985]}
[ قيل المراد ب " يستنبطونه " : يَسْتَخْرِجونَهُ ، وقال عِكْرمة : يَحْرِصُون عليه{[8986]} ويسألون عنه ]{[8987]} ، وقال الضَّحَّاك : يتتبّعونه{[8988]} ، يريد : الذين سَمِعُوا تلك الأخْبَار من المُؤمنين والمُنَافِقين ، لو رَدُّوه{[8989]} إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وإلى ذَوِي الرَّأي والعِلْم ، لعلمه الذين يَسْتَنْبِطُونه ، أي : يُحِبون أي يَعْلَمُوه على حَقِيقَتِهِ كما هُو .
وقيل : المُراد ب " الذين يستنبوطه " أولئك المُنَافِقُون المُذِيعُونَ ، والتقدير : ولو أن هؤلاء المُنَافِقِين المُذِيعِينَ رَدُّوا أمر الأمْنِ والخَوْف إلى الرَّسُول وإلى أولي الأمْر ، وطلبوا مَعْرِفَة الحَالِ [ فيه ]{[8990]} من جهتِهِم ، لعلمه الَّذين يستَنْبِطُونه مِنْهُم و [ هم ]{[8991]} هؤلاء المُنَافِقُون المُذِيعُون منهم ، أي : من جَانب الرَّسُول ، ومن جَانب أولي الأمْر [ منهم ]{[8992]} .
فإن قِيلَ : إذا كَان الَّذين أمَرَهُم الله - تعالى - برد هذه الأخْبَارِ إلى الرَّسُول وإلى أولي [ الأمر مِنْهُم وهم المُنَافِقُون ، فكَيف جَعَل أولي الأمْر منهم في قوله : { وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } .
الجواب : إنما جَعَل أولي ]{[8993]} الأمْر مِنْهُم على حَسَب الظَّاهِر ؛ لأن المُنَافِقين يظْهِرُون من أنْفسهم أنَّهم مؤمِنُون ، ونَظِيرُه : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } وقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }
قال أبو العَباس [ المُقْرِئ ]{[8994]} : وَرَدَت{[8995]} الرَّحْمَة [ في القُرْآن ]{[8996]} عَلَى سَبْعَة أوجه :
الأوّل : القُرْآن ، قال - تعالى - : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أراد بالفَضْلِ الإسْلام{[8997]} ، وبالرَّحْمَة القُرْآن .
الثاني : بمعنى الإسْلام ؛ قال - تعالى - : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الإنسان : 31 ] أي : في الإسلام [ ومثله { وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] أي : في دين الإسلام ]{[8998]} .
الثالث : [ بمعنى ]{[8999]} : الجنة ؛ قال - تعالى - : { أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } [ العنكبوت : 23 ] أي : من جَنَّتِي .
الرَّابع : المَطَر ؛ قال - تعالى - : { يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ }
الخامس : النِّعمة ؛ قال - تعالى - : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } .
السادس : النبوة ؛ قال - تعالى - : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] ، أي : النُّبُوَّة .
السابع : الرِّزْق ؛ قال - تعالى - : { مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] : من الرِّزْقِ ؛ ومثله { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } أي : رِزْقاً .
اعلم : أن ظَاهِر هذا الاسْتِثْنَاء يوهِمُ أنَّ ذلك القليل وَقَع لا بِفَضْل الله ولا بِرَحْمَتِه ، وذلك محال .
قوله : " إلا قليلاً " ذكر المفسَِّرُونَ فيها عشرة أوجه :
الأول : قال بعضهم : إنه مُسْتَثْنَى من فَاعِل " اتبعتم " أي : لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم ، فإنه لم يتَّبع الشَّيْطَان ، على تقدِير كَوْن فَضْل الله لم يأته ، ويكونُ أرادَ بفضل الله الإسلام وإرسَالَ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويكون قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ } كلام تامٌّ ، [ وذلك القَلِيلُ ؛ كقِسٍّ بن سَاعِدة الإيَادِي ، وزَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة سِوَاهم مِمَّن كان على دِين المَسِيحِ قَبل بَعْثَةِ الرسول ] .
وقال أبو مُسِلم{[9000]} : المراد بِفَضْل اللَّه ورحمته في هذه الآية : هو نُصْرتهُ ومعُونتهُ اللَّذان تمنَّاهُما المُنَافِقُون ؛ بقولهم : { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ النساء : 73 ] بيَّن - تعالى - أنَّه لولا حُصُول النَّصْر والظّفَرِ على سبيل التَّتَابُع ، لاتَّبَعْتُم الشَّيْطَان وتركتم الدين إلاَّ قليلاً مِنْكُم ، وهم أهْل البَصَائِر النَّافِذة ، والنِّيَّات القويَّة{[9001]} ، والعَزَائم المُتَمكِّنَةِ من أفَاضِل المُؤمِنِين ، الذين يَعْلَمُون أنه لَيْس من شَرْطِ كونه حَقّاً هو الدَّوْلَة في الدُّنْيَا ، فلأجل تَوَاتُر الفَتْح{[9002]} والظَّفر في الدُّنْيَا يدل على كَوْنه حَقاً ؛ ولأجل تواتر الهَزِيمَة والانكِسَار يدلُّ على كونه بَاطِلاً ، بل الأمْر في كونه حَقاً وباطلاً على الدَّلِيل ، وهو أحْسَن الوُجُوه .
[ وقيل : المُرَادُ مَنْ مَنْ لم يَبْلغ التكْلِيف ، وعلى ذها التَّأويل قيل : فالاستثْنَاء مُنْقَطِع ؛ لأن المُسْتَثْنَى لم يَدْخُل تحت الخِطَاب ، وفيه نظر يظهر في الوَجْهِ العَاشِر .
الثاني : أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل " أذاعوا " أي : أظْهَرُوا أمرَ الأمْن أو الخَوْف إلا قَليلاً فأخرج بعض المُنَاقِقِين من هَذِه الإذاعَة .
الثالث : أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل " عَلِمه " أي : لعلمه المُسْتَنْبِطُون منهم إلا قَلِيلاً ] .
قال الفرَّاء والمبرد{[9003]} : [ وأما ]{[9004]} القَوْل بأنَّه مستَثْنى من فاعل " أذاعوا " أوْلى من هَذَا ؛ لأن ما يُعْلَم بالاسْتِنْبَاطِ ؛ فالأقلُّ{[9005]} يعلمُه والأكْثَر يجهله ، وصرف الاسْتِِثْنَاء إلى المسْتَنْبِطِين يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِك .
قال الزَّجَّاج{[9006]} : هذا غَلَطٌ ؛ لأنه لَيْسَ المراد من هَذَا الاستِثْنَاء{[9007]} شيئاً يَسْتَخْرِجُه بنظر دَقيق وفكْرٍ غَامِضٍ ، إنما هو استِنْبَاط خَبَر ، وإذا كَانَ كَذَلِك فالأكثرون يَعْرِفُونه إنَّما البالغ في البَلاَدة والجَهَالة هُو الَّذي لا يَعْرِفُه ، ويمكن أن يُقَال : كلام الزَّجَّاج إنما يَصِحُّ لو حَمَلْنا الاستِنْبَاطَ{[9008]} على مُجَرَّد تعرُّف الأخْبَارِ والأرَاجِيف ، [ أمَّا ]{[9009]} إذا حملناه على الاستِنْبَاطِ في جَميع الأحْكَام ، كان الحَقُّ ما ذكره الفَرَّاء والمُبرِّد .
الرابع : أنه مُسْتَثْنَى من فاعل " لوجدوا " أي : لوجدوا فيما هَو من عِنْد غير الله التناقض إلا قليلاً مِنْهُم ، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ ، فيظنُّ البَاطِلَ حقاً والمتناقضَ مُوَافِقاً .
الخامس : أنه مُسْتَثْنى من الضَّمِير المَجْرُور في " عَلَيْكُم " ، وتأويلُه كتأويل الوَجْه الأول .
السادس : أنه مُسْتَثْنى من فاعل " يستنبطونه " ، وتأويله كتأويل الوجه الثَّالث .
السابع : أنه مُسْتَثْنَى من المَصْدَر الدالِّ عليه الفعْلُ ، والتقدير : لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً ؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري{[9010]} .
الثَّامن : أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتبعتم الشَّيْطَان كلكم إلا قليلاً من الأمُور كُنْتم لا تتِّبِعُون الشَّيْطَان فيها ، فالمعنى : لاتبعتم الشَّيْطان في كل شَيْء إلا في قَليلٍ من الأمُور ، فإنكم كُنْتُم لا تتَّبِعُونه فيها ، وعلى هَذَا فهو استِثْناء مفرَّغ ؛ ذكر ذلك ابن عَطِيَّة{[9011]} ، إلا أنَّ في كلامه مناقشةً : وهو أنَّه قال " أي : لاتَّبعتُم الشَّيْطَان كلّكم إلا قَلِيلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها " ، فجعله هنا مُسْتَثْنَى من المتَّبعِ فيه المَحْذُوف على ما تَقَدَّم تقريره ، وكان تَقَدَّم أنه مُسْتَثْنى من الاتِّباع ، فتقديُره يؤدِّي إلى اسْتِثْنَائِه من المتَّبَع فيه ، وادِّعاؤه أنه استثنَاء من الاتباع ، وهما غيران .
التاسع : أن المُرَاد بالقلة العدمُ ، يريد : لاتَّبعْتُم الشَّيْطان كلكم وعدمَ تخلُّفِ أحَدٍ منكم ؛ نقله ابن عطية عن جَمَاعةٍ وعن الطَّبِري{[9012]} ، ورَدَّه بأن اقْتِران القِلَّة بالاسْتِثْنَاء يقتضي دُخُولَها ؛ قال : " وهذا كَلاَمٌ قَلِقٌ ولا يشبه ما حَكَى سيبَويْه من قَوْلِهِم : " هذه أرضٌ قَلَّ ما تُنْبِتُ كذا " أي : لا تُنْبِتُ شيئاً " .
وهذا الذي قاله صَحيحٌ ، إلا أنه كان تَقَدَّم له في البَقَرَةِ في قوله - تعالى - :
{ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] أن التَّقْليل هنا بِمَعْنَى العدم ، وتقدَّم الردُّ عليه هُنَاك ، فَتَنَبَّهَ لهذا المَعْنَى هُنَا ولم ينتبه له هناك .
العاشر : أن المُخَاطب بقوله : " لاتبعتم " جميعُ النَّاس على العُمُوم ، والمُرَادُ بالقَلِيل : أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصةً ، وأيَّد صَاحِبُ هذا القَوْلِ قوله بقوله - عليه السلام - : " ما أنْتُم في سِوَاكُم من الأمَمِ إلاَّ كالرَّقْمَة البَيْضاء في الثَّور الأسود " {[9013]} .
فصل دلالة الآية على حجية القياس
دلت هذه الآية على أنَّ القياس حُجَّة ؛ لأن قوله : { الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } صفة لأولي الأمْر ، وقد أوْجَب اللَّه على الذين يجيئُهُم أمْرَيْن : الأمن ، أو الخوف أن يَرْجَعُوا في مَعْرِفتِه إليهم ولا يَخْلُو إمَّا أن يَرْجِعُوا إليهم في مَعْرِفَة هذه الوَقَائِع مع حُصُول النَّصِّ فيها أوْ لا ، والأوَّل باطل ؛ لأن من استدلَّ بالنَّصِّ في واقِعةٍ لا يُقَال : إنه استنبط الحكم ؛ فثبت أنه - تعالى - أمَر المكَلَّف بِرَدِّ الوَاقعة إلى من يَسْتَنْبِط الحُكْم فيها ، ولَوْلاَ أن الاسْتِنبَاط حُجَّة ، لما أمَر المُكَلَّف بذلك ؛ فَثَبت أن الاستِنْبَاط حُجَّة ، وإذا ثبت ذلك فَنَقُول : دلت الآيَةُ على أمُورٍ :
منها : أن في الأحْكام ما لا يُعْرف بالنَّصِّ ، بل بالاستِنْبَاطِ .
ومنها : أنَّ الاستنباط حُجَّة .
ومنها : أن العَامِيِّ يجِب عليه تَقْلِيد العُلَمَاء في أحْكَام الحَوَادِث .
ومنها : أن النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - كان مُكَلَّفاً باستِنْبَاط الأحْكَام ؛ لأن الله - تعالى - أمَر بالرَّدِّ إلى أولي الأمْرِ ، ثم قال : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يخصّص أولي الأمْر دون الرَّسُول ، وذلك يُوجِب أن الرَّسُول وأولي الأمْر كلهم مُكَلَّفُون بالاسْتِنْبَاطِ .
فإن قيل : لا نُسَلَّم أن المراد ب { الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أولي الأمْر ، لكن هذه الآيَة إنَّما نزلت في بَيَان الوَقَائع المُتَعَلِّقة بالحُرُوب والجِهَاد ، فهَبْ أن الرُّجُوع إلى الاستنبَاط جَائِزٌ فيها ، فَلِمَ قُلْتُم بجوازِه في الوَقَائِع الشَّرْعِيَّة ؛ فإن قِيْسَ{[9014]} أحد البَابَيْن على الآخَر ، كان ذَلِك إثْبَاتاً للقِيَاس الشَّرْعِيِّ بالقِياس ، وأنَّه لا يجُوز أن الاسْتِنْبَاط في الأحْكَام الشَّرْعِيَّة داخل تحت الآية فلمَّا قُلْتُم يلزم أن يكُون القِيَاس حُجَّة ، فإنَّه يمكنُ أن يكُون المُرَاد بالاسْتِنْبَاط : استخراج الأحْكَام من النُّصُوص الخَفِيَّة ، أو مِنْ تركيبَاتِ النُّصوصِ ، أو المراد منه استخراج الأحكام من البَرَاءة ، الأصليَّة ، أو مما ثَبَت بحكم العَقْلِ ، كما يقول الأكَثُرون إن الأصْل في المَنَافِع الإبَاحَة ، وفي المَضَارِّ الحُرْمَة .
سلمنا أنَّ القِيَاس الشَّرْعِي داخلٌ في الآية ، لكن بِشَرْط أن يكون القياسُ مُفِيداً للعِلْم ؛ لقوله - تعالى - : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . فاعتبر حُصُول العِلْم من هذا الاستِنْبَاط ، ونِزَاع في مثل هذا القِيَاس ، إنما النِّزاع في القِياس الَّذِي يفيد الظَّنَّ : هل هو حُجَّة في الشرع ، أمْ لا .
والجواب : أمَّا الأوَّل فلا يصح ؛ لأنَّه يَصِيرُ التقدير : أو رَدُّوه إلى الرَّسُول وَإلى أولِي الأمْر مِنْهُم لَعَلِمُوه ، وعَطْف المظهر على المُضْمَر ، وهو قوله : " ولو ردوه " قَبِيح مستكره .
وأما الثَّاني فَمَدْفُوع من وَجْهَيْن :
أحدهما : أن قوله : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ } حاصل في كل ما يتعلَّق بباب التَّكْلِيف ، فَلَيْس في الآيَة ما يوجِبُ تَخْصِيصها بأمر الحُرُوبِ .
وثانيها : هَبْ أن الأمْر كما ذكرْتُم ، لكن لمَّا ثَبَت تَعَرُّف أحْكَام الحروب بالقِيَاس الشَّرعيِّ ، وجب أن يتَمسَّك بالقِيَاس الشَّرْعِيِّ في سَائِر الوَقَائِع ، لأنه لا قائل بالفَرْق .
وأما الثَّالث : وهو حَمْل الاستِنْبَاط على اسْتِخْرَاج النُّصُوص الخَفِيَّة أو على تَرْكِيبات النُّصُوص ، فكلُّ ذلك لا يُخْرِجُه عن كونه مَنْصُوصاً ، والتَّمَسُّك بالنَّصِّ لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً .
وأما قوله : لا يجوزُ حَملُه على التَّمسُّكِ بالبَرَاءة الأصْلِيَّة .
قلنا : لَيْس هذا استِنْبَاطاً ، بل هذا إبقاء لما كان على ما كان ، ومثل هذا لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً .
وأما الرابع : وهو أن هذا الاستِنْبَاط إنَّما يجُوز عند حُصُول العِلْم ، والقياس الشَّرْعِيِّ لا يفيد العِلْم .
أحدُهُما : أنَّه عندنا يُفِيدُ العِلْم ؛ أن ثُبُوت إن القِيَاسَ حجَّة يقطع بأنَّهُ مهما غَلَب على الظَّنِّ أنَّ حُكْم اللَّه في الأصْل معلَّل بكذا ، ثمَّ غَلَب على الظَّنِّ أنَّ ذلك المَعْنَى قَائِمٌ في الفَرْع ، فهنا يحصل ظنُّ أنَّ حُكْم الله في الفَرْعِ مُسَاوٍ لحُكْمِه في الأصْل ، وعند هذا الظَّنِّ يُقْطَع بأنَّه مكَلَّفٌ بأن يعمل على وَفْقِ هذا الظَّنِّ ؛ فالحاصل : أن الظَّنَّ واقع في طَرِيق الحُكْم ، وأما الحُكْمُ فمقطوع{[9015]} به ، وهو يجري مَجْرَى ما إذا قَالَ الله - تعالى : مهما غَلَب عَلى ظنِّك كذَا ، فاعلم أنَّ حُكْمِي في الوَاقِعَة كذا ، فإذا غَلَب الظَّنُّ قَطَعْنَا بثُبُوت ذلك الحُكْمِ .
وثانيهما : أن العِلْم قد يُطْلَق ويراد به الظَّنَّ ؛ وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَد " شَرَطَ العِلْمَ في جواز الشَّهَادَةِ ، وأجْمَعْنَا على أنَّ عند الظَّنِّ تُجُوزُ الشَّهَادة ؛ فثبت أنَّ الظَّنِّ قد يُسَمَّى بالعِلْمِ .
دلَّت [ هذه ]{[9016]} الآية على أنَّ الذين اتَّبعوا الشَّيْطَان ، قد مَنَعَهُم الله فَضْلَه ورحمته وإلا ما كان يتبع ، وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ قول المُعْتَزِلَة : في أنَّه يجب على اللَّه رعاية الأصْلَحِ في الدِّين .
أجابُوا : بأن فَضْلَ اللَّهِ ورَحْمَتَه [ عامَّات في حق الكُلِّ ، لكن المُؤمنِين انْتَفَعُوا به ، والكَافِرِين لم ينْتَفِعُوا به فَصَحَّ عَلَى سبيل المجاز أنه لم يَحْصُل للكَافِرين فَضْل الله ورَحْمَته ]{[9017]} في الدِّين .