التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} (83)

{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ به ( 1 ) وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ( 2 ) مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ( 83 ) } .

1-أذاعوا به : أفشوه بين الناس .

2-الذين يستنبطونه : الذين يستطيعون معرفة الحقيقة فيه . والاستنباط في اللغة استخراج ما في الباطن وأكثر ما كان يطلق على استخراج الماء من جوف الأرض .

في هذه الآية :

( 1 ) تنديد بالمنافقين الذين هم موضوع الكلام في السياق السابق لأنهم كانوا مما يفعلونه حينما يصل إليهم خبر من أخبار الحرب والسياسة وسواء أكان سارا أو مسيئا ومطمئنا أو مثيرا للخوف أن يذيعوه بين الناس .

( 2 ) وبيان لما كان يوجبه عليهم الإخلاص والطاعة والإيمان وهو إبلاغه لرسول الله ولأولي الأمر منهم والوقوف عند هذا الحد ، حيث ينظر النبي وأولوا الأمر في الأمر ويستعينوا بأهل الخبرة في معرفة الحقيقة ويتصف في الأمر وفقا لما تقضي به المصلحة .

( 3 ) وتذكير للمسلمين بفضل الله تعالى ورحمته وعنايته وهدايته . وأنهم لولا ذلك لكان أكثرهم متبعين للشيطان .

تعليق على الآية

( وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ به وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ … )

لم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية . والمتبادر أنها متصلة سياقا وموضوعا بالآيات السابقة أيضا . وفيها صورة خبيثة ممضة أخرى من مواقف المنافقين . وتوطيد لسلطان النبي صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر والعلم . وتأديب للمسلمين فيما يجب أن يسيروا عليه في مثل هذا الموقف وتقريع للذين يخالفون ذلك .

والمقصد من ذكر أولي الأمر مع الرسول يحتمل أن يكون كما هو المتبادر إيجاب رد الأمر إلى أولي الأمر أو الرؤساء في حال غيبة الرسول عنهم أو غيبتهم عنه أو في حالة وجودهم في سرية جهادية ، حيث كان قواد السرايا يلقبون بالأمراء وبأمراء المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم{[613]} .

ومع خصوصية الآية الزمنية ، فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي صدد ما يجب على أفراد المسلمين أم على أولي الأمر منهم ، فليس للأفراد أن يقوموا بأعمال منفردة مما هو متصل بشؤون الدولة وأمنها وسلامتها . وعليهم حينما يتصل بعلمهم خبر متعلق بمثل ذلك أن يرفعوه إلى أولي الأمر فيهم . وعلى أولي الأمر أن يوكلوا أمور الدولة ومسائل سلامتها وأمنها إلى الخبراء المختصين أو يستشيروا فيها الخبراء المختصين أو يفعلوا الأمرين معا ؛ لأنهم هم القادرون على فهم الأمور واستنباط الحقائق من الوقائع وتحديد ما هو الأفضل والأصلح والأقوم . وقد يتفرع عن هذا أنه ليس للأفراد أن ينفردوا في تنفيذ ما قد يتراءى لهم من أعمال متصلة بشؤون الدولة . فهذا من شأن أولي الأمر والحل والعقد والعلم والخبرة . وعلى الأفراد أن يرفعوا ما يتراءى لهم أن فيه مصلحة إلى هؤلاء وأن يسمعوا ويطيعوا لهم . فإن الانفراد في ذلك مؤد إلى الفتنة والفوضى فضلا عن أنه غير مضمون الصواب .

والآية وإن كانت للتنديد بمن يتسرع في إذاعة ما يبلغه من أمر متصل بالأمن والخوف ، فإنه يتبادر لنا أن تلقينها شامل لكل من يتسرع في الكلام على عواهنه ويندمج في إشاعة الشائعات بغير تثبت وبكثير من الخوض فيما ليس فيه خير ومصلحة . ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية بعض الأحاديث النبوية التي تنهى عن ذلك حيث يكون هذا المفسر قد استلهم منها ما ستلهمناه من التلقين العام . ومما أورده حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ) {[614]} وحديث رواه الشيخان عن المغيرة ابن شعبة قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال ) وحديث رواه أبو داود جاء فيه : ( بئس مطية الرجل زعموا ) وهناك أحاديث أخرى يمكن أن تساق في هذا المساق منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب وفي رواية إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوى بها سبعين خريفا في النار ) {[615]} وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) {[616]} وحديث رواه الترمذي والحاكم وأحمد عن علي ابن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) {[617]} .

وفي الأحاديث تلقين وتأديب نبويان رائعان استلهمناهما من الآية من الشمول والله أعلم .

وكما أول بعض المفسرين جملة ( وأولي الأمر ) في الآية ( 59 ) من هذه السورة بعلماء الدين وفقهائه أوّلوا الجملة هنا بذلك أيضا . وقالوا : إن على الأفراد أن يردوا كل أمر من أمور الدين إليهم ويسيروا وفق ما يستنبطونه من قواعد وأحكام{[618]} ولقد علقنا على ذلك ورجحنا أن المقصود بأولي الأمر هم أولوا الأمر السياسيون والعسكريون في الدرجة الأولى .

والعبارة القرآنية هنا أكثر صراحة ودلالة على كون المقصود بأولي الأمر هم أصحاب الحكم والسلطان والقيادة لأن الأمر الذي يجب على الناس رده إليهم هو مسائل الأمن والخوف وبعبارة ثانية مسائل الحرب والسياسة .

على أن محتوى الآية يمكن أن يكون موضع قياس من حيث إيجاب رد كل شيء إلى أولى العلم والخبرة والشأن فيه والسير فيه وفق ما يستنبطونه من مآخذه القرآنية والنبوية والأمثلة والعرف والمصلحة وحيث يدخل في ذلك الشؤون الفقهية والشؤون الاجتماعية والسياسية والحربية .

ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن ذلك منوط بقدرة هؤلاء على الاستنباط علما وعقلا وخبرة وأنه شامل لكل ظرف ودور .

ولقد روى الطبري أقوالا عديدة في مدى جملة ( إلا قليلا ) . منها أنهم أكابر أصحاب رسول الله . ومنها أنهم القادرون على الاستنباط ومعرفة الحقائق منهم . ومنها أنهم الذين لا يذيعون ما يصل إليهم ويرفعونه إلى الرسول وأولي الأمر والعلم .

وجميع هذه الأقوال واردة . مع القول : إن روح العبارة تسوغ القول بأنها هدفت إلى تحذير الجمهور من التصرف الفردي الاعتباطي ورفعها إلى القادرين على التصرف فيها وهم عادة الأقل . والله تعالى أعلم .


[613]:انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 48 ـ 49
[614]:التاج ج 5 ص 42
[615]:المصدر نفسه ص 183
[616]:المصدر نفسه ص 186
[617]:المصدر نفسه ص 186
[618]:انظر تفسير الآية في المنار حيث عزى القول إلى الرازي، ورد السيد رشيد رضا عليه ردا قويا محكما