غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} (83)

82

ثم حكى عن المنافقين - وقيل عن ضعفة المسلمين - أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوا به وأفشوه . يقال : أذاع السر وأذاع به لغتان . ويجوز أن يكون معنى أذاع به فعل به الإذاعة وهو أبلغ . ولا يخفى ما في ذلك الإفشاء من الضرر من جهة أن الإرجاف لا ينفك عن الكذب ، ومن جهة أن تلك الزيادات إن كانت في جانب الأمن ولم تقع أورثت شبهة لضعفة المسلمين في صدق الرسول ، لأن المنافقين كانوا يروونها عن الرسول ، وإن كانت في جانب الخوف حصل اضطراب في الضعفة ووقعوا في الحيرة ، وأيضاً البحث عن الإرجاف موجب ظهور الأسرار وذلك لا يوافق مصلحة المدينة فربما وصل الخبر إلى الكفار فاستعدوا للقتال أو تحصنوا . وفي معنى الآية أقوال : الأول : ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر - وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم - { لعلمه } لعلم تدبير ما أخبروا به { الذين يستنبطونه } الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها ، وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من البئر أول ما تحفر فاستعير لاستخراج المعاني . والتدبير الثاني : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فتعود إذاعتهم مفسدة . فقيل لهم : لو فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وكانوا كأن لم يسمعوا العلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه . الثالث : كانوا يسمعون من أفواه بعض المنافقين شيئاً من خبر السرايا غير معلوم الصحة فيذيعونه فقيل لهم : لو سكتوا حتى سمعوه من الرسول وأولي الأمر لعلموا صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع فالمستنبطون هم المذيعون . ومعنى يستنبطونه منهم يتلقونه من الرسول وأولي الأمر ويستخرجون علمه من جهنم .

قالت العلماء : في الآية دلالة على أن القياس حجة لأنهم أمروا أن يرجعوا في معرفة الوقائع إلى أولي الأمر من المستنبطين . فرواية النص لا تكون استنباطاً فهو إذن رد واقعة إلى نظيرها وهو القياس . واعترض بأنا لا نسلم أن المستنبطين هم العلماء وأولو الآراء بل هم المذيعون كما في القول الثالث . سلمنا لكن الآية نزلت في الحروب ، ولا يلزم من جواز الاستنباط في الوقائع المتعلقة بها جواز الاستنباط في الوقائع الشرعية . فإن قيس أحد البابين على الآخر كان إثباتاً للقياس الشرعي بالقياس الشرعي . سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد استخراج الأحكام الشرعية من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو بالبراءة الأصلية أو بحكم العقل كما يقول الأكثرون إن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة وكل هذه الأمور ليست من القياس الشرعي في شيء ؟ سلمنا أن القياس الشرعي داخل في الآية . لكن بشرط كونه مفيداً " للعلم " بدليل قوله { لعلمه الذين يستنبطونه } ولا نزاع في مثله إنما النزاع في أن القياس المفيد للظن هل هو حجة أم لا . وأجيب بأن صرف المستنبطين إلى المذيعين ليس بالقوي إذ لو كان المراد ذلك لكان الأليق بنظم الكلام أن يقال : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لعلموه من غير إقامة المظهر مقام المضمر . وعن الثاني بأن الأمن أو الخوف عام في كل ما يتعلق بباب التكليف . ولئن سلم أنه مخصوص بأمور الحرب فإذا عرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي لزم جواز التمسك به في سائر الوقائع إذ لا قائل بالفرق . ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه ؟ وعن الثالث أن شيئاً من ذلك لا يسمى استنباطاً . وعن الرابع أن العلم قد يراد به الظن الغالب . سلمنا لكن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم لأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع ، حصل ظن أن حكم الله في الفرع مساوٍ لحكمه في الأصل ، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن وهذا معنى قولهم : " الظن واقع في طريق الحكم " والحكم مقطوع به كأنه تعالى قال : مهما غلب على ظنك كذا في الواقعة الفلانية فاعلم قطعاً أن حكمي فيها كذا . أما قوله { لا تبعتم الشيطان إلا قليلاً } فظاهره يقتضي إشكالاً وهو أن قليلاً من الناس لا يحتاج في عدم إتباع الشيطان إلى فضل الله ورحمته ، لكن الاحتياج بالنسبة إلى كل واحد من الناس ثابت بالاتفاق فهذا تناقض . فذكر المفسرون في إزالة التناقض وجوهاً الأول : أن الاستثناء راجع إلى قوله : { أذاعوا به } كأنه تعالى أخرج بعض المنافقين من هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله : { بيت طائفة } الثاني : أنه عائد إلى قوله : { لعلمه } يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلاّ قليلاً .

قال الفراء والمبرد : القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله . وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، قال الزجاج : هذا غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إلاّ البالغ في البلادة . والإنصاف أن الاستنباط لو حمل على مجرد تفرق الأخبار والأراجيف فكلام الزجاج الصحيح وإن كان محمولاً على استخراج الأحكام الشرعية كما مر فالحق ما ذكره الفراء والمبرد . الثالث : أن الاستثناء مصروف إلى ما يليه كما هو حق النسق لأن الفضل والرحمة مفسران بشيء خاص وفيه وجهان : أحدهما قول جماعة من المفسرين أن المراد إنزال القرآن وبعثة محمد والتقدير : لولا بعثة محمد وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان ولكفرتم بالله إلاّ القليل منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ، كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم . وثانيهما قول أبي مسلم أن المراد بالفضل والرحمة ههنا نصرته تعالى ومعونته اللذان تمناهما المنافقون بقولهم :{ فأفوز فوزاً عظيماً }[ النساء : 73 ] والتقدير : لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لتركتم الدين إلاّ القليل منكم وهم أهل البصائر والعزائم ، ومن أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقاً حصول الدولة في الدنيا ، فلا تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقاً ، ولا انقطاع النصر والغلبة يدل على كونه باطلاً ، بل الأمر في كونه حقاً وباطلاً مبني على الدليل وهذا أحسن الوجوه .