المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (152)

هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة ، ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه ، قال مجاهد : { التي هي أحسن } التجارة فيه ممن كان من الناظرين له مال يعيش به ، فالأحسن إذا ثمر مال يتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها من كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره وإلا دعته الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف ، قاله ابن زيد ، و «الأشد » جمع شد وجمع شدة{[5153]} ، وهو هنا الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وليس هذا بالأشد المقرون ببلوغ الأربعين ، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وتلك الأشد هي التجارب والعقل المحنك ، ولكن قد خلطهما المفسرون ، وقال ربيعة والشعبي ومالك فيما روي عنه وأبو حنيفة ، «بلوغ الأشد » البلوغ مع أن لا يثبت سفه ، وقال السدي : «الأشد » ثلاثون سنة ، وقالت فرقة ثلاثة وثلاثون سنة ، وحكى الزجاج عن فرقة ثمانية عشر سنة ، وضعّفه ورجح البلوغ مع الرشد وحكى النقاش أن «الأشد » هنا من خمسة عشر إلى ثلاثين ، والفقه ما رجح الزجّاج ، وهو قول مالك رحمه الله : الرشد وزوال السفه مع البلوغ .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع ، وقوله تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان } الآية أمر بالاعتدال في الأخذ والإعطاء ، «والقسط » بالعدل ، وقوله { لا نكلف نفساً إلا وسعها } يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه ، قال الطبري : لما كان الذي يعطي ناقصاً يتكلف في ذلك مشقة والذي يعطي زائدا يتكلف أيضا مثل ذلك ، رفع الله عز وجل الأمر بالمعادلة حتى لا يتكلف واحد منهما مشقة . وقوله { وإذا قلتم فاعدلوا } يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس وغير ذلك ، أي ولو كان ميل الحق على قراباتكم ، وقوله : { وبعهد الله } يحتمل أن يراد جميع ما عهده الله إلى عباده ، ويحتمل أن يراد به جميع ذلك مع جميع ما انعقد بين إنسانين وأضاف ذلك العهد إلى الله من حيث قد أمر بحفظه والوفاء به ، وقوله { لعلكم } ترجٍّ بحسبنا . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تذّكّرون » بتشديد الذال والكاف جميعاً وكذلك «يذّكّرون » و «يذكّر الإنسان »{[5154]} وما جرى من ذلك مشدداً كله ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله { أو لا يذكر الإنسان } [ مريم : 67 ] فإنهم خففوها ، وروى أبان وحفص عن عاصم «تذَكرون » خفيفة الذال في كل القرآن .

وقرأ حمزة والكسائي «تذكرون » بتخفيف الذال إذا كان الفعل بالتاء ، وإذا كان بالياء قرأه بالتشديد ، وقرأ حمزة وحده في سورة الفرقان { لمن أراد أن يذْكر }{[5155]} بسكون الذال وتخفيف الكاف ، وقرأ ذلك الكسائي بتشديدهما وفتحهما .


[5153]:- الأشدّ: مبلغ الرجل في الحنكة والمعرفة، قال أبو عبيد: واحدها شدّ في القياس ولم أسمع لها بواحدة، وقال سيبويه: واحدها شدة كنعمة وأنعم، وقال ابن جني: إنه جمع لا واحد له من لفظه، وقال السيرافي: القياس شدّ وأشدّ مثل قدّ وأقدّ. (عن لسان العرب). وقد قيل: إن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشدّ كما قال سُحيم بن وثيل: أخو خمسين مجتمع أشدي ونجّذني مداورة الشؤون. ولكن هذا المعنى لا يستقيم هنا.
[5154]:- من قوله تعالى في الآية (67) من سورة (مريم): {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا}.
[5155]:- من قوله تعالى في الآية: (62) من سورة (الفرقان): {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا}.