المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ قَالُواْ يَٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِيهَا وَهُمۡ يَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} (31)

هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم ، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه ، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء ، والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا ، وقوله : { بلقاء الله } معناه : بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته ، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها ، و { الساعة } يوم القيامة ، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها ، وأيضاً فقد تضمنها قوله تعالى : { بلقاء الله } وبغتة معناه فجأة ، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر :

ولكنهم تابوا ولم أخش بغتة . . . وأفظع شيء حين يفجأك البغت{[4887]}

ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول : قتلته صبراً ، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه{[4888]} .

ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه ، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك ، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع ، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع ، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل ، ونحو هذا{[4889]} .

و { فرطنا } معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير ، وهذه حقيقة التفريط ، والضمير في قوله { فيها } عائد على { الساعة } أي في التقدمة لها ، وهذا قول الحسن ، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية . ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها ، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار ، وعوده على { الساعة } إنما معناه في أمورها والاستعداد لها ، بمنزلة زيد في العلم مشتغل .

وقوله تعالى :{ وهم يحملون أوزارهم } الآية ، الواو واو الحال ، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب ، تقول منه وزر يزر إذا حمل ، قال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }{[4890]} وتقول وزر الرجل فهو موزور ، قال أبو عبيدة : والعامة تقول : مازور ، وأما إذا اقترن ذلك مأجور فإن العرب تقول : مأزور ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء لقيهن مقبلات من المقابر : «ارجعن مأزورات غير مأجورات »{[4891]} قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي ، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال ، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال ، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة ، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبراً أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفرحها فيسلم عليه ويقول له : طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم ، قال فيحمله تمثال العمل ، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول : أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم ، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره{[4892]} . وقوله تعالى : { ألا ساء ما يزرون } إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، وقوله ألا هل بلغت{[4893]} ، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه { ألا } ، وأما { ساء ما يزرون } فهو خبر مجرد كقول الشاعر : [ البسيط ]

رَضِيت خِطَّةَ خَسْفٍ غًيْرَ طَائِلَةٍ . . . فَسَاءَ هَذا رِضى يا قَيْس غيلانَا

و { ساء } فعل ماضٍ و { ما } فاعلة به كما تقول ساءني أمر كذا ، ويحتمل أن تجري { ساء } هنا مجرى بئس ، ويقدر ما يقدر ل «بئس » إذ قد جاء في كتاب الله { ساء مثلاً القوم }{[4894]} .


[4887]:- هذا البيت ليزيد بن ضبّة الثقفي كما قال صاحب "اللسان"، وقد اختلفت الأصول في كلمة (تابوا)- فهي في بعض النسخ (نابوا)- وفي رواية "اللسان": ولكنهم ماتوا ولم أدر بغتة وأفظع شيء حين يفجؤك البغث وهي التي تتفق مع معنى البغتة وفظاعتها، وفي التنزيل العزيز: {ولتأتينهم بغتة} وفيه: {فأخذناهم بغتة} أي: فجأة.
[4888]:- من الشواهد التي أنشدها سيبويه على نصب المصدر في موضع الحال قول زهير بن أبي سلمى: فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا على ظهر محبوك ظماء مفاصله التقدير: حملنا وليدنا مبطئين ملتئين، والبيت في وصف فرس بالنشاط والسرعة، والمحبوك الشديد الخلق، والظمأ هنا: القليلة اللحم، يقول: إذا حملنا وليدنا على هذا الفرس ليصيد امتنع لنشاطه فلم نحمله إلا بعد إبطاء وجهد.
[4889]:- هذا أبلغ في النفس من قولك: تعجبت، ومن أمثلته قول امرئ القيس في معلقته: ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من رحلها المتحمل
[4890]:-- تكررت في الآيات: (164) من سورة (الأنعام)، و(15) من سورة (الإسراء)، و(18) من سورة (فاطر)، و(7) من سورة (الزمر) و(38) من سورة (النجم).
[4891]:- أخرجه ابن ماجة عن علي كرم الله وجهه، وأخرجه أبو يعلى في مسنده عن أنس، ورمز له السيوطي بالصحة في الجامع الصغير.
[4892]:- أخرج مثله ابن جرير، وابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس الملائي، وأخرج مثله ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن قيس عن أبي مرزوق. (الدر المنثور 3-9).
[4893]:- جاء ذلك في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مع اختلاف الروايات في بعض الألفاظ، ففي السيرة النبوية لابن هشام: "اللهم هل بلغت؟" وأن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد".
[4894]:- من الآية (177) من سورة (الأعراف) – ومعنى كلام ابن عطية أن (ساء) متعدية، وأن (ما) فاعل كما نقول: "ساءني هذا الأمر"، وأن الكلام خبر مجرد كقول الشاعر: "فساء هذا رضى..." ومعنى هذا أن وزنها فعل بفتح العين، و(ما) يمكن أن تكون موصولة، ويمكن أن تكون مصدرية فينسبك منها مع ما بعدها مصدر ويصير هو الفاعل أي: ألا ساء وزرهم- وذكر وجها ثانيا هو احتمال أن تكون مثل (بئس) في المعنى والأحكام، ومعنى هذا أنها حولت إلى (فعل) بضم العين وأريد بها المبالغة في الذم. وهناك وجه ثالث ذكره أبو حيان في "البحر" وهو أنها حولت إلى (فعل) بضم العين وأشربت معنى التعجب، والمعنى: ألا ما أسوأ ما يزرونه- على أن (ما) موصولة- أو ما أسوأ وزرهم- على أنها مصدرية- والأوجه الثلاثة يمكن ورودها في معنى البيت الذي ذكره ابن عطية ولا يتعين أن تكون (ساء) فيه خبرا مجردا. (راجع "البحر المحيط" 4/107-108).