الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ قَالُواْ يَٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِيهَا وَهُمۡ يَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} (31)

قولهم : { قَالُواْ يا حسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا }[ الأنعام :31 ] فيها نداء الحَسَرَةِ على تَعْظِيمِ الأمر ، وتشنيعه .

و{ فَرَّطْنَا } معناه : قَصَّرْنَا ، والضمير في قوله : { فِيهَا } عائد على السَّاعَةِ ، أي : في التَّقْدِمَةِ لها قاله الحسن .

ويحتمل أن يَعُودَ الضمير على الدنيا ، إذ المعنى يَقْتَضِيهَا ، ومجيء الظرفية أمكن .

قلت : قال عَبد الحق في ( العَاقِبَةِ ) : لا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الحياة إلا الموتى ، لأنهم قد ظَهَرَتْ لهم الأمور ، وانكشفت لهم الحَقَائِقُ ، وتَبَدَّتْ لهم المَنَازِلُ ، وعلموا مِقْدَارَ الأعمال الصَّالِحَةِ ، ولما اسْتَبَانَ لهم ذلك ، وعلموا مِقْدَارَ ما ضيعوا ، وقيمة ما فيه فَرَّطُوا ، نَدِمُوا وَأَسِفُوا ، وودُّوا أنهم إلى الدنيا رَجَعُوا ، فالذي عمل صالحًا ودَّ أن لو رَجَعَ إلى الدنيا لِيَزْدَادَ من عَمَلِهِ الصالح ، ويكثر من تَجْرِهِ الرابح ، والمُقَصِّرُ يَوَدُّ أنه لو رُدَّ ليستدرك ما فيه فَرَّطَ ، وقد قال عليه السَّلاَمُ : ( ما مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إلاَّ نَدِمَ ) ، قَالُوا : وَمَا نَدَامَتُهُ يا رسول اللَّه ؟ قال : ( إنْ كَانَ مُحْسِناً نَدِمَ أن لاَّ يكون ازْدَادَ ، وإن كَانَ مُسِيئاً نَدِمَ أن لا يَكُونَ نَزَعَ ) خرجه الترمذي ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ }[ الأنعام :31 ] .

الواو واو الحَالِ ، و( الأَوْزَارُ ) جمع وِزْر بكسر الواو ، وهو الثّقْلُ من الذنوب ، والوِزْرُ هنا تَجَوُّز وتَشْبِيهٌ بثقل الأَحْمَالِ ، ومن قال : إنه من الوَزَرِ ، وهو الجَبَلُ الذي يُلْجَأُ إلَيْهِ ، فهو قول غير بَيِّنِ .

وقال الطبري وغيره : هذا على جهة الحَقِيقَةِ ، وَرَوَوْا في ذلك خَبَراً : ( إنَّ المُؤْمِنَ يَلْقَاهُ عمله في أَحْسَنِ صُورَةً وأَفْوَحِهَا ، فَيُسَلِّمُ عليه وَيَقُولُ : طَالَ مَا رَكِبْتُكَ في الدُّنْيَا ، وَأَجْهَدْتُكَ ، فَارْكَبْنِي اليَوْمَ ، قال : فَيَحْمِلُهُ تِمْثَالُ العَمَلِ . وإن الكَافِرَ يَلْقَاهُ عَمَلَهُ في أَقْبَحِ صُورَةً وأَنْتَنِهَا فَيَشْتِمُهُ ، ويقول : أنا عَمَلُكَ الخَبِيثُ طَالَ مَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا بِشَهَوَاتِكَ ، فَأَنا أرْكَبُك اليَوْمَ ، قال : فيحمل تِمْثَالَ عَمَلِهِ الخَبِيثَ ، وَأَوْزَارَهُ على ظَهْرِهِ ) .

قلت : والأحاديث الصحيحة في معنى ما ذَكَرَهُ الطبري كثيرةٌ ، كأحاديث مَانِعِي الزكاة ، وغيرها .

قال مكي : وروى المَقْبُرِيُّ عن أبي هريرة : في حديث يرفعه : قال : ( إذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ بَعَثَ اللَّه مع كل امْرِئٍ مُؤْمِنٍ عَمَلَهُ ، وبَعَثَ مع الكافر عَمَلَهُ ، فلا يرى المُؤْمِنُ شَيْئاً يروعه ، ولا شَيْئاً يُفْزِعُهُ ويخافه إلاَّ قَالَ له عَمَلُهُ : أَبْشِرْ بالَّذِي يَسُرُّكَ ، فَإنَّكَ لَسْتَ بِالَّذِي يُرَادُ بهذا ، ولا يرى الكَافِر شَيْئاً يُفْزِعُهُ ، ويروعه ، ويَخَافُهُ إلا قال له عَمَلُهُ : أبْشِرْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ بالذي يَسُوؤُكَ ، فَوَاللَّهِ إنك لأنْتَ الذي تُرَادُ بهَذَا ) انتهى .