الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ قَالُواْ يَٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِيهَا وَهُمۡ يَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} (31)

قوله تعالى : " قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله " قيل : بالبعث بعد الموت وبالجزاء ؛ دليله قوله عليه السلام : ( من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) أي لقي جزاءه ؛ لأن من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية ، ذهب إلى هذا القفال وغيره . قال القشيري : وهذا ليس بشيء ؛ لأن حمل اللقاء في موضع على الجزاء لدليل قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع ، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية . والكفار كانوا ينكرون الصانع ، ومنكر الرؤية منكر للوجود !

قوله تعالى : " حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة " سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها . ومعنى ( بغتة ) فجأة ، يقال : بغتهم الأمر بغتهم بغتا وبغتة . وهي نصب على الحال ، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال ، كما تقول : قتلته صبرا ، وأنشد{[6307]} :

فلأْيًا بلأي ما حملنا ولِيدَنَا *** على ظهر محبوكٍ ظماءٍ مفاصلُه

ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه ، لا يقال : جاء فلان سرعة .

قوله تعالى : " قالوا يا حسرتنا " وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة ، ولكنه يدل على كثرة التحسر ، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمناديين في الحقيقة ، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء . قال سيبويه : كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك ، وكذلك قولك يا حسرتي أي يا حسرتا{[6308]} تعالي فهذا وقتك ، وكذلك ما لا يصح نداؤه يجرى هذا المجرى ، فهذا أبلغ من قولك تعجبت . ومنه قول الشاعر :

فيا عجبا من رحلها المتحمل{[6309]}

وقيل : هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة ، أي يا أيها الناس تنبوا على عظيم ما بي من الحسرة ، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة ، كقولك : لا أرينك ههنا . فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة .

قوله تعالى : " على ما فرطنا فيها " أي في الساعة ، أي في التقدمة لها . عن الحسن . و( فرطنا ) معناه ضيعنا وأصله التقدم ، يقال : فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء ، ومنه ( أنا فرطكم على الحوض ) . ومنه الفارط أي المتقدم للماء ، ومنه - في الدعاء للصبي - اللهم اجعله فرطا لأبويه ، فقولهم : ( فرطنا ) أي قدمنا العجز . وقيل : ( فرطنا ) أي جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا . ( فيها ) أي في الدنيا بترك العمل للساعة . وقال الطبري : ( الهاء ) راجعة إلى الصفقة ، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر ، والآخرة بالدنيا{[6310]} ، " قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها " أي في الصفقة ، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها ؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع . دليله قوله : " فما ربحت تجارتهم " {[6311]} [ البقرة : 16 ] . وقال السدي : على ما ضيعنا أي من عمل الجنة . وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : ( يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون : ( يا حسرتنا ) .

قوله تعالى : " وهم يحملون أوزارهم " أي ذنوبهم جمع وزر . " على ظهورهم " مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا ؛ يقال منه : وزر يزر ، ووزر يوزر فهو وازر ومزور ؛ وأصله من الوزر وهو الجبل . ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة ( ارجعن موزورات غير مأجورات ) قال أبو عبيد : والعامة تقول : ( مأزورات ) كأنه لا وجه له عنده ؛ لأنه من الوزر . قال أبو عبيد : ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي ثقلك . ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية : والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها . " ألا ساء ما يزرون " أي ما أسوأ الشيء الذي يحملونه .


[6307]:البيت لزهير بن أبي سلمى، والشاهد فيه قوله: (لأيا بلأي) ونصبه على المصدر الموضوع في موضع الحال، والتقدير حملنا وليدنا مبطئين ملتئين. وصف فرسا بالنشاط وشدة الخلق فيقول: إذا حملنا الغلام عليه ليصيد امتنع لنشاطه فلم نحمله إلا بعد إبطاء وجهد. واللأي الإبطاء، المحبوك الشديد الخلق، والظماء هنا القليلة اللحم – وهو المحمود منها- وأصل الظمأ العطش. (شواهد سيبويه).
[6308]:من ب، ج، ك، ع.
[6309]:شطر بيت من معلقة امرئ القيس وصدره: ويوم عقرت للعذارى مطيتي.
[6310]:في الأصول: والدنيا بالآخرة.
[6311]:راجع ج 1 ص 210.