قوله تعالى : { وجعلنا ابن مريم وأمه آيةً } دلالة على قدرتنا ، ولم يقل آيتين ، قيل : معناه شأنهما آية . وقيل : ، معناه جعلنا كل واحد منهما آية ، كقوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها } { وآويناهما إلى ربوة } الربوة المكان المرتفع من الأرض ، واختلفت الأقوال فيها ، فقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل ، وقال الضحاك : غوطة دمشق . وقال أبو هريرة : هي الرملة . وقال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس ، وهو قول قتادة و كعب . وقال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً . وقال ابن زيد : هي مصر . وقال السدي : أرض فلسطين . { ذات قرار } أي : مستوية منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها . { ومعين } فالمعين الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون ، مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر .
لما كانت آية عيسى العظمى في ذاته في كيفيَّة تكوينه كان الاهتمام بذكرها هنا ، ولم تذكر رسالته لأن معجزة تخليقه دالة على صدق رسالته . وأما قوله { وأمه } فهو إدماج لتسفيه اليهود فيما رموا به مريم عليها السلام فإن ما جعله الله آية لها ولابنها جعلوه مطعناً ومغمزاً فيهما .
وتنكير { آية } للتعظيم لأنها آية تحتوي على آيات . ولما كان مجموعها دالاً على صدق عيسى في رسالته جعل مجموعها آية عظيمة على صدقه كما علمتَ .
وأما قوله : { وآويناهما إلى رُبوة } فهو تنويه بهما إذ جعلهما الله محل عنايته ومظهر قدرته ولطفه .
والإيواء : جعل الغير آوياً ، أي ساكناً . وتقدم عند قوله : { أو آوي إلى ركن شديد } في سورة هود ( 80 ) وعند قوله : { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } في سورة هود ( 43 ) .
والرُبوة بضم الراء : المرتفع من الأرض . ويجوز في الراء الحركات الثلاث . وتقدم في قوله تعالى : { كمثل جنة بربوة } في البقرة ( 265 ) . والمراد بهذا الإيواء وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضُها لتلد عيسى في منعزل من الناس حفظاً لعيسى من أذاهم .
والقرار : المكث في المكان ، أي هي صالحة لأن تكون قراراً ، فأضيفت الربوة إلى المعنى الحاصل فيها لأدنى ملابسة وذلك بما اشتملت عليه من النخيل المثمر فتكون في ظله ولا تحتاج إلى طلب قوتها .
والمعين : الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض ، وهو وصف جرى على موصوف محذوف ، أي ماء معين ، لدلالة الوصف عليه كقوله : { حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] . وهذا في معنى قوله في سورة مريم ( 24 26 ) { قد جعل رَبّك تَحْتَكِ سَريّاً وهُزّي إليك بجذْع النخلة تَسَّاقطْ عليك رُطَباً جَنِيَّاً فَكُلِي واشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجعلنا ابن مريم وأمه} يعني: عيسى وأمه مريم، عليهما السلام، {آية} يعني: عبرة لبني إسرائيل، لأن مريم حملت من غير بشر، وخلق ابنها من غير أب. {وآويناهما} من الأرض المقدسة {إلى ربوة}... يعنى بالربوة المكان المرتفع من الأرض {ذات قرار} يعني: استواء {ومعين}، يعني: الماء الجاري.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ" يقول: وجعلنا ابن مريم وأمه حجة لنا على من كان بينهم، وعلى قدرتنا على إنشاء الأجسام من غير أصل، كما أنشأنا خلق عيسى من غير أب...
"وآوَيْناهما إلى رَبْوَةٍ" يقول: وضممناهما وصيرناهما إلى ربوة... وقوله: "إلى رَبْوَة" يعني: إلى مكان مرتفع من الأرض على ما حوله...
واختلف أهل التأويل في المكان الذي وصفه الله بهذه الصفة وآوَى إليه مريم وابنها، فقال بعضهم: هو الرّملة من فلسطين...
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك: أنها مكان مرتفع ذو استواء وماء ظاهر وليس كذلك صفة الرملة، لأن الرملة لا ماء بها مُعِين، والله تعالى ذكره وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومَعِين...
"ذَات قَرَارٍ وَمَعِينٍ" يقول تعالى ذكره: من صفة الربوة التي آوينا إليها مريم وابنها عيسى، أنها أرض منبسطة، وساحة ذات ماء ظاهر لغير الباطن جارٍ... عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}... قَالَ: الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي، وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" وجعلنا ابن مريم وأمه آية "معناه جعلناهما حجة، على أنه تعالى قادر على اختراع الأجسام من غير شيء، كما اخترع عيسى من غير أب. والآية -ههنا- في عيسى (ع) أنه ولد من غير فحل، ونطق في المهد. وفى أمه أنها حملته من غير ذكر، وبرأها كلامه في المهد من الفاحشة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «القرار»، التمكن فمعنى هذا أَنها مستوية بسيطة للحرث والغراسة قاله ابن عباس، وقال قتادة «القرار» هنا الحبوب والثمار، ومعنى الآية أنها من البقاع التي كملت خصالها، فهي أَهل أَن يستقر فيها. وقد يمكن أَن يستقر على الكمال في البقاع التي ماؤها آبار، فبين بعد أَن ماء هذه الربوة يرى معيناً جارياً على وجه الأرض قاله ابن عباس. وهذا كمال الكمال، و «المعين»، الظاهر الجري للعين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من ذكر كلهم قد ردوا من جاءهم لإشعارهم استبعادهم لأن يكون الرسل بشراً، وكان بنو إسرائيل الذين أعزهم الله ونصرهم على عدوهم وأوضح لهم الطريق بالكتاب قد اتخذوا عيسى -مع كونه بشراً- إلهاً، اتبع ذلك ذكره تعجيباً من حال المكذبين في هذا الصعود بعد ذلك نزول في أمر من أرسلوا إليهم، وجرت على أيديهم الآيات لهدايتهم، فقال: {وجعلنا} أي بعظمتنا {ابن مريم} نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية؛ وزاد في حقيق ذلك بقوله: {وأمه} وقال: {آية} إشارة إلى ظهور الخوارق على أيديهما حتى كأنهما نفس الآية، فلا يرى منها شيء إلا وهو آية، ولو قال: آيتين، لكان ربما ظن أنه يراد حقيقة هذا العدد، ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية القدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام، ومن ذكر بلا أنثى كحواء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر كعيسى عليه السلام، ومن الزوجين كبقية الناس، والمراد أن بني إسرائيل -مع الكتاب الذي هو آية مسموعة والنبي الذي هو آية مرئية- لم يهتد أكثرهم.
ولما كان أهل الغلو في عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام ربما تشبثوا من هذه العبارة بشيء، حقق بشريتهما واحتياجهما المنافي لرتبة الإلهية فقال: {وآويناهما} أي بعظمتنا لما قصد ملوك البلاد الشامية إهلاكهما {إلى ربوة} أي مكان عال من الأرض، وأحسن ما يكون النبات في الأماكن المرتفعة... {ذات قرار} أي منبسط صالح لأن يستقر فيه لما فيه من المرافق {ومعين} أي ماء ظاهر للعين، ونافع كالماعون، فرع اشتق من أصلين، ولم يقدر من خالفه من الملوك وغيرهم على كثرتهم وقوتهم على قتله لا في حال صغره، ولا في حال كبره، كما مضى نقله عن الإنجيل وصدقه عليه القرآن، مع كونه مظنة لتناهي الضعف بكونه، من أنثى فقط ولا ناصر له إلا الله، ومع ذلك فأنجح الله أمره وأمر من اتبعه، وخيب به الكافرين، ورفعه إليه ليؤيد به هذا الدين في آخر الزمان، ويكون للمؤمنين حينئذ فلاح لم يتقدمه مثله، وكان ذلك من إحسان خالقه ونعمته عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وليس المهم تحديد موضعها، إنما المقصود هو الإشارة إلى إيواء الله لهما في مكان طيب، ينضر فيه النبت، ويسيل فيه الماء، ويجدان فيه الرعاية والإيواء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بهذا الإيواء وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضُها لتلد عيسى في منعزل من الناس؛ حفظاً لعيسى من أذاهم. والقرار: المكث في المكان، أي هي صالحة لأن تكون قراراً، فأضيفت الربوة إلى المعنى الحاصل فيها لأدنى ملابسة، وذلك بما اشتملت عليه من النخيل المثمر فتكون في ظله ولا تحتاج إلى طلب قوتها.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.