وقوله تعالى : { يا أيها الإنسان } مخاطبة للجنس ، و «الكادح » : العامل بشدة وسرعة واجتهاد مؤثر ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة{[11700]} » والمعنى أنك عامل خيراً أو شراً وأنت لا محالة في ذلك سائر إلى ربك ، لأن الزمن يطير بعمر الإنسان ، فإنما هو مدة عمره في سير حثيث إلى ربه ، وهذه آية وعظ وتذكير ، أي فكر على حذر من هذه الحال واعمل عملاً صالحاً تجده ، وقرأ طلحة : بإدغام كاف كادح ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الوافر ]
وما الإنسان إلا ذو اغترار . . . طوال الدهر يكدح في سفال{[11701]}
وقال قتادة : من استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ، وقوله تعالى : { فملاقيه } معناه : فملاقي عذابه أو تنعيمه ، واختلف النحاة في العامل : في { إذا } ، فقال بعض النحاة العامل : { انشقت } وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن { إذا } : مضافة إلى { انشقت } ومن يجز ذلك تضعف عنده الإضافة ، وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن { إذا } مضافة إلى { انشقت } ومن يجز ذلك يضعف عنده الإضافة ، ويقوى معنى الجزاء{[11702]} ، وقال آخرون منهم : العامل { فملاقيه } ، وقال بعض حذاقهم : العامل فعل مضمر ، وكذلك اختلفوا في جواب { إذا } ، فقال كثير من النحاة : هو محذوف لعلم السامع به ، وقال أبو العباس المبرد والأخفش : هو في قوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } ، إذا انشقت السماء ، انشقت فأنت ملاقي الله ، وقيل التقدير في أيها الإنسان ، وجواب { إذا } في الفاء المقدرة ، وقال الفراء عن بعض النحاة : هو { أذنت } على زيادة تقدير الواو{[11703]} ، وأما الضمير { فملاقيه } ، فقال جمهور المتأولين هو عائد على الرب ، فالفاء على هذا عاطفة ملاق على كادح ، وقال بعض الناس : هو عائد على الكدح ، فالفاء على هذا عاطفة جملة على التي قبلها ، والتقدير فأنت ملاقيه{[11704]} ، والمعنى ملاقي جزائه خيراً كان أو شراً .
وجملة : { يا أيها الإنسان إنك كادح } إلى آخره جواب { إذا } باعتبار ما فُرع عليه من قوله : { فملاقيه } ونسب هذا إلى المبرد ، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه .
فالمعنى : إذا السماء انشقت وإذا الأرض مُدّت لاقيتَ ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله : { إنك كادح إدماجاً بمنزلة الاعتراض أمام المقصود .
وجوز المبرد أن يكون جواب إذا } محذوفاً دل عليه قوله : { فملاقيه } والتقدير : إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيتَ أيها الإنسان ربك .
وجوز الفرّاء أن يكون جواب { إذا } قوله { وأذنت لربها } وإن الواو زائدة في الجواب . ورده ابن الأنباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت { إذا } بعد ( حتى ) كقوله تعالى : { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] أو بعد ( لما ) كقوله تعالى : { فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم } [ الصافات : 103 ، 104 ] الآية .
وقيل : الجواب : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } [ الانشقاق : 7 ] ، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس .
والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله : { الإنسان } لتعريف الجنس وهو للاستغراق كما دل عليه التفصيل في قوله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله : كان به بصيراً } [ الانشقاق : 15 ] .
والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث . فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإِنذار ، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير .
وقيل : أريد إنسان معين فقيل : هو الأسود بن عبد الأسد ( بالسين المهملة في « الاستيعاب » و« الإِصابة » ووقع في « الكشاف » بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في « جامع الأصول » بالمهملة ) ، وقيل : أُبيّ بن خلف ، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء .
والكدحُ : يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيَّها الحقيقة ، وقد أهمل هذه المادة في « الأساس » فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي . وظاهر كلام الراغب أن حقيقته : إتعاب النفس في العمل والكد . وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف ( إلى ) تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله ، فيجوز أن يضمن { كادح } معنى ساععٍ لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملاً لغد وهكذا ، وذلك يتقضَّى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله ، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جُعِل كدحُه إلى ربه . فكأنه قيل : إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك ، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف ( إنَّ ) ، ويجوز أن يضمن { كادح } معنى ماش فيكون المجرور ظرفاً لغواً .
و { كدحاً } منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد { كادح } المضمن معنى ساع إلى ربك ، أي ساع إليه لا محالة ولا مفر .
وضمير النصب في « ملاقيه » عائد إلى الرب ، أي فملاق ربك ، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملاً فملاقيه به، خيرا كان عملُك ذلك أو شرّا، يقول: فليكن عملُك مما يُنجيك من سُخْطه، ويوجب لك رضاه، ولا يكن مما يُسخطه عليك فتهلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الكادح، هو الساعي، وهو الذي اعتاد ذلك، وهذا في كل إنسان، تراه أبدا ساعيا إما في عمل الخير وإما في عمل الشر، وإما في ما يضره حتى إذا هم بترك السعي لم يقدر، لأن تركه السعي نوع من السعي...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
خطاب لجميع المكلفين من البشر من ولد آدم يقول الله لهم ولكل واحد منهم (يا أيها الإنسان إنك كادح) والكدح: السعي الشديد في الأمر، يقال:...فيه كدوح وخدوش أي آثار من شدة السعي في الأمر، ومعنى (كادح إلى ربك كدحا) أيها الإنسان إنك في أمرك بشدة ومشقة إلى أن تلقى جزاء عملك من ربك، فأنت لا تخلو في الدنيا من مشقة، فلا تعمل لها، واعمل لغيرها فيما تصير به إلى الراحة من الكدح، فالغني والفقير كل واحد منهما يكدح ما يقتضيه حاله.
وقوله (فملاقيه) تفخيم لشأن الأمر الذي يلقى من جهته، فجعل لذلك لقاء جزائه، لقاءه وهذا من المعاني العجيبة والحكمة البالغة والهاء في (فملاقيه) يحتمل أمرين: أن تكون كناية عن الله، وتقديره فملاقي ربك أي تلاقى جزاء ربك، ويحتمل أن تكون كناية عن الكدح، وتقديره فملاقي كدحك الذي هو عملك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الكدح: جهد النفس في العمل والكدّ فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده: إذا خدشه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الكادح»: العامل بشدة وسرعة واجتهاد مؤثر... والمعنى أنك عامل خيراً أو شراً وأنت لا محالة في ذلك سائر إلى ربك، لأن الزمن يطير بعمر الإنسان، فإنما هو مدة عمره في سير حثيث إلى ربه، وهذه آية وعظ وتذكير، أي فكر على حذر من هذه الحال واعمل عملاً صالحاً تجده...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان، وأمامه الكون بسمائه وأرضه مستسلما لربه هذا الاستسلام:
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)..
(يا أيها الإنسان).. الذي خلقه ربه بإحسان؛ والذي ميزه بهذه "الإنسانية " التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه، وأطوع لأمره من الأرض والسماء. وقد نفخ فيه من روحه، وأودعه القدرة على الاتصال به، وتلقي قبس من نوره، والفرح باستقبال فيوضاته، والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة!
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه).. يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا، تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشق طريقك.. لتصل في النهاية إلى ربك. فإليه المرجع وإليه المآب. بعد الكد والكدح والجهاد..
يا أيها الإنسان.. إنك كادح حتى في متاعك.. فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد. إن لم يكن جهد بدن وكد عمل، فهو جهد تفكير وكد مشاعر. الواجد والمحروم سواء. إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان.. ثم في النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء.
يا أيها الإنسان.. إنك لا تجد الراحة في الأرض أبدا. إنما الراحة هناك. لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام.. والتعب واحد في الأرض والكدح واحد -وإن اختلف لونه وطعمه- أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك.. فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض. وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد..
يا أيها الإنسان.. الذي امتاز بخصائص " الإنسان".. ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله، اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه.
ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عندما يصلون إلى نهاية الطريق، ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء:
(وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يحور. بلى إن ربه كان به بصيرا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث. فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإِنذار، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير...
والكدحُ: يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيَّها الحقيقة، وقد أهمل هذه المادة في « الأساس» فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي. وظاهر كلام الراغب أن حقيقته: إتعاب النفس في العمل والكد. وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف (إلى) تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله، فيجوز أن يضمن {كادح} معنى ساعٍ، لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملاً لغد وهكذا، وذلك يتقضَّى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جُعِل كدحُه إلى ربه. فكأنه قيل: إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك...
يكدح أي: يتعب في الحياة تعباً يبدو أثره على نفسه، فأنت أيها الإنسان سواء كنت كافراً أو مؤمناً كادحٌ إلى ربك كدحاً؛ أي: غايتك إلى ربك من بدايتك إلى نهايتك، ولكن هناك فرق فيمن يكدح في أمر محمود، ومن يكدح في أمر مذموم، فهذا كادح في طلب الدنيا والإقبال عليها ومجهد نفسه في تحصيلها، وهذا أيضاً كادح، ولكن في طلب الآخرة، ويحمل نفسه المشاق، ويقف أمام شهوات نفسه ويتعرض لكذا وكذا، فهذا كادح وذلك كادح ولكن شتان ما بينهما.
وهناك معنى آخر: وهو أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة، وهي: أن الإنسان هو الذي يكدح ويجاهد لأجل لقاء الله عز وجل، فكأن اللقاء أمر حتمي لا مفر منه، ومشوراك في الحياة هو هرولة تجاه ذلك الأمر.
وما دمت كادحاً إلى ربك كدحاً فملاقيه، فتكون كلمة: {فملاقيه} عندها تتحدد المواقف الجزائية، فإن كنت على وفق ما أحب، سيلقاك اللقاء الكريم، ويلقاك بنعيمه، وإن كنت على المنهج المضاد فسيلقاك بعذابه، والعياذ بالله.
فيا أيها الإنسان، إنك سائر إلى ربك لا محالة، سواء بكدحك للدنيا، أو بكدحك للآخرة، فالاثنان في كدّ ونصب، كما تبين ذلك في قول الحق سبحانه وتعالى: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} فكبد متعلقة بالدنيا، وكبد متعلقة بالآخرة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يا أيّهَا الإِنسَانُ} الذي خلق الله في كيانه خصائص إنسانيته من عقلٍ وإرادة وحرية حركة، بالمستوى الذي يكون فيه إنساناً مسؤولاً...
{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} فليست الحياة فرصةً للاسترخاء والنوم والراحة اللاّهية المطلقة، وليست مجالاً للعبث واللّعب واللّهو، بل هي فرصتك للكدح الذي يمثل الجهد العمليّ الذي يترك تأثيره عليك في كيانك الجسدي والروحي والشعوري، لأن هناك دوراً كبيراً لا بد من أن تقوم به في خلافتك عن الله في إدارة شؤون الحياة في الأرض على خط رسالاته...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية، فالحياة دوماً ممزوجة بالتعب والعناء، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان اللّه ونيل حسن مآب الآخرة؟! فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي. وما ذكر «لقاء اللّه»...
واستعمال كلمة «ربّ» فيه إشارة إلى أن ثمّة ارتباطا ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة وذلك البرنامج التربوي الذي أعدّه الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو الكمال المطلق من جهة اُخرى. نعم، فمشوار حركة الوجود قد بدأ من العدم، والأقدام سائرة في خطوها صوب لقاء اللّه، شاء ذلك الموجود أم أبى. وقد تحدثت لنا آيات قرآنية اُخرى عن السير التكاملي المستمر للمخلوقات نحو خالقها سبحانه وتعالى، ومنها. الآية (42) من سورة النجم: (وأنّ إلى ربّك المنتهى). والآية (18) من سورة فاطر: (وإلى اللّه المصير).. بالإضافة إلى آيات مباركات اُخر...