اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ} (6)

قوله : { يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ } .

قيل : المراد جنس الإنسان{[59660]} ، كقولك : يا أيها الرجل ، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس .

قال القفال{[59661]} : وهو أبلغ من العموم ؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين ، بخلاف اللفظ العام .

وقيل : المراد منه رجل بعينه ، فقيل : هو محمد - عليه الصلاة والسلام - ، والمعنى : أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده ، وتحمل الضرر من الكفَّار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل .

وقال ابنُ عبَّاسٍ : هو أبيّ بن خلفٍ ، وكدحه : هو جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - والإصرار على الكفر{[59662]} .

فصل في المراد بالكدح

الكَدْحُ : قال الزمخشريُّ{[59663]} : جَهْدُ النفس ، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها ، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه ، ومعنى «كادح » أي : جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت . انتهى . وقال ابن نفيلِ : [ الطويل ]

5137- ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا *** أمُوتُ ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ{[59664]}

وقال آخر : [ الكامل ]

5138- ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ *** وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ{[59665]}

وقال الراغب : وقد يستعمل الكدح دون الكلام بالأسنان .

وقال الخليل : الكدحُ دون الكدم .

فصل في معنى الآية

معنى «كادحُ إلى ربِّك » أي : ساع إليه في عملك .

والكدحُ : عمل الإنسان وجهده في الخير والشر .

قال قتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ : عامل لربك عملاً{[59666]} ، وقوله تعالى : { إلى رَبِّكَ } أي : إلى لقاء ربك ، وهو الموت ، أي : هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن .

وقال القفال{[59667]} : تقديره : أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك .

قوله : «فمُلاقِيهِ » : يجوز أن يكون عطفاً على [ «إنك ]{[59668]} كادح » ، والسبب فيه ظاهر ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : فأنت ملاقيه ، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط .

وقال ابن عطية{[59669]} : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه . يعني بقوله : «على هذا » أي : على عود الضَّمير على كدحكَ .

قال أبو حيَّان{[59670]} : «ولا يتعين ما قاله ، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات » .

والضميرُ في «فملاقيه » : إمَّا للربِّ ، أي : ملاقي حكمه لا مفر لك منه . قاله الزجاج .

وإمَّا ل «الكدح » إلا أن الكدحَ عمل ، وهو عرض لا يبقى ، فملاقاته ممتنعة ، فالمراد : جزاءُ كدحكَ .

وقال ابنُ الخطيب{[59671]} : المراد : ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا بقوله بعده : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } .


[59660]:في أ الناس.
[59661]:الفخر الرازي 31/96.
[59662]:ينظر المصدر السابق عن ابن عباس.
[59663]:الكشاف 4/726.
[59664]:تقدم.
[59665]:ينظر القرطبي 19/278، والبحر 8/436، والدر المصون 6/498.
[59666]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/507) عن قتادة وابن زيد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/547) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.
[59667]:ينظر: الفخر الرازي 31/96.
[59668]:سقط من أ.
[59669]:ينظر: المحرر الوجيز 5/457.
[59670]:البحر المحيط 8/439.
[59671]:الفخر الرازي 31/96.