المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ} (6)

وقوله تعالى : { يا أيها الإنسان } مخاطبة للجنس ، و «الكادح » : العامل بشدة وسرعة واجتهاد مؤثر ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة{[11700]} » والمعنى أنك عامل خيراً أو شراً وأنت لا محالة في ذلك سائر إلى ربك ، لأن الزمن يطير بعمر الإنسان ، فإنما هو مدة عمره في سير حثيث إلى ربه ، وهذه آية وعظ وتذكير ، أي فكر على حذر من هذه الحال واعمل عملاً صالحاً تجده ، وقرأ طلحة : بإدغام كاف كادح ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الوافر ]

وما الإنسان إلا ذو اغترار . . . طوال الدهر يكدح في سفال{[11701]}

وقال قتادة : من استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ، وقوله تعالى : { فملاقيه } معناه : فملاقي عذابه أو تنعيمه ، واختلف النحاة في العامل : في { إذا } ، فقال بعض النحاة العامل : { انشقت } وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن { إذا } : مضافة إلى { انشقت } ومن يجز ذلك تضعف عنده الإضافة ، وأبى ذلك كثير من أئمتهم ، لأن { إذا } مضافة إلى { انشقت } ومن يجز ذلك يضعف عنده الإضافة ، ويقوى معنى الجزاء{[11702]} ، وقال آخرون منهم : العامل { فملاقيه } ، وقال بعض حذاقهم : العامل فعل مضمر ، وكذلك اختلفوا في جواب { إذا } ، فقال كثير من النحاة : هو محذوف لعلم السامع به ، وقال أبو العباس المبرد والأخفش : هو في قوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } ، إذا انشقت السماء ، انشقت فأنت ملاقي الله ، وقيل التقدير في أيها الإنسان ، وجواب { إذا } في الفاء المقدرة ، وقال الفراء عن بعض النحاة : هو { أذنت } على زيادة تقدير الواو{[11703]} ، وأما الضمير { فملاقيه } ، فقال جمهور المتأولين هو عائد على الرب ، فالفاء على هذا عاطفة ملاق على كادح ، وقال بعض الناس : هو عائد على الكدح ، فالفاء على هذا عاطفة جملة على التي قبلها ، والتقدير فأنت ملاقيه{[11704]} ، والمعنى ملاقي جزائه خيراً كان أو شراً .


[11700]:أخرجه أبو داود والنسائي في الزكاة، وأحمد في مسنده (2/94، 5/19)، ولفظه كما في مسند أحمد، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء فليستبق على وجهه، وأهون المسألة مسألة ذي الرحم تسأله في حاجة، وخير المسألة المسألة عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول). قال ابن الأثير: الكدوح الخدوش، وكل أثر من خدش أو عض فهو كدح.
[11701]:الاغترار: الغفلة، والكدح: السعي والمشقة، والسقال: مصدر سفل وهو نقيض العلو والرفعة، يقول: إن الإنسان يعيش دائما في غفلة، ويتعب نفسه في حقير الأمور التي لا تنفعه أو تنهض به.
[11702]:نقل أبو حيان كلام ابن عطية هذا، ثم علق عليه بقوله: "وهذا القول نحن نختاره، وقد استدللنا على صحته فيما كتبنا، والتقدير : وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض".
[11703]:قال القرطبي تعليقا على هذا الكلام: "وهذا غلط، لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع "حتى – إذا" كقوله تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها}، ومع "لما" كقوله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه } معناه: ناديناه، الواو لا تقحم مع غير هذين}.
[11704]:أيضا نقل أبو حيان الأندلسي هذا الكلام عن ابن عطية في البحر المحيط، وعقب بقوله: "ولا يتعين ما قاله، بل يصح أن يكون معطوفا على (كادح) عطف المفردات".