مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ} (6)

قوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه }

اعلم أن قوله تعالى : { إذا السماء انشقت } إلى قوله : { يا أيها الإنسان } شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه ( أحدها ) : قال صاحب الكشاف : حذف جواب إذا ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل ( وثانيها ) : قال الفراء : إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف ، ونظيره قوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع ( وثالثها ) : قال بعض المحققين : الجواب هو قوله : { فملاقيه } وقوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا } معترض ، وهو كقول القائل إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر ، فكذا ههنا . والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله ( ورابعها ) : أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل : { ي أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } { إذا السماء انشقت } وقامت القيامة ( وخامسها ) : قال الكسائي : إن الجواب في قوله : { فأما من أوتي كتابه } واعترض في الكلام قوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح } والمعنى إذا السماء انشقت ، وكان كذا وكذا { فمن أوتي كتابه بيمينه } فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ، ونظيره قوله تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم } ( وسادسها ) : قال القاضي : إن الجواب ما دل عليه قوله : { إنك كادح } كأنه تعالى قال : يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم أما قوله : { يا أيها الإنسان } ففيه قولان : ( الأول ) : أن المراد جنس الناس كما يقال : أيها الرجل ، وكلكم ذلك الرجل ، فكذا ههنا . وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس ، قال القفال : وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك ( والثاني ) : أن المراد منه رجل بعينه ، وههنا فيه قولان : ( الأول ) أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل وهو غير ضائع عنده ( الثاني ) : قال ابن عباس : هو أبي بن خلف ، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول عليه السلام ، والإصرار على الكفر ، والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة ، ولأن قوله : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } كالنوعين له ، وذلك لا يتم إلا إذا كان جنسا ، أما قوله : { إنك كادح } فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه ، أما قوله : { إلى ربك } ففيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) : إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان ، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة ، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب ، ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية ، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة ، وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة ، وذلك معقول ، فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم ، فكما صح أن يقال : يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم ، فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصا عن الكدح والظلمة فنرجو من فضل الله أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك ( وثانيهما ) : قال القفال : التقدير إنك كادح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى ههنا ( وثالثها ) : يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي ، فكأنه قال : ساع بعملك { إلى ربك } أما قوله تعالى : { فملاقيه } ففيه قولان : ( الأول ) قال الزجاج : فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه ، وقال آخرون : الضمير عائد إلى الكدح ، إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة ، فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } .