معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ} (7)

{ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } يتفرقوا ، { ولله خزائن السماوات والأرض } فلا يعطي أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته ، { ولكن المنافقين لا يفقهون } أن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ} (7)

هم الذين يقولون أي للأنصار لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا يعنون فقراء المهاجرين ولله خزائن السموات والأرض بيده الأرزاق والقسم ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك لجهلهم بالله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ} (7)

وقوله تعالى : { هم الذين } أشار عبد الله بن أبي ومن قال بقوله ، قاله علي بن سليمان{[11118]} ثم سفه تعالى أحلامهم في أن ظنوا إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى ، إذا انسد باب انفتح غيره ، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي{[11119]} : «حتى يُنفِضْوا » بضم الياء وتخفيف الفاء ، يقال : «أنفَضَ » الرجل إذا فني طعامه فنفض وعاءه والخزائن موضع الإعداد ، ونجد القرآن قد نطق في غير موضع بالخزائن ونجد في الحديث : «خزنة الريح »{[11120]} وفي القرآن : { من جبال فيها من برد }{[11121]} [ النور : 43 ] ، فجائز أن تكون هذه عبارة عن القدرة وأن هذه الأشياء إيجادها عند ظهورها جائز . وهو الأظهر . إن منها أشياء مخلوقة موجودة يصرفها الله تعالى حيث شاء ، وظواهر ألفاظ الشريعة تعطي هذا . ومعناه في التفسير قال : عتت على الخزان{[11122]} ، وفي الحديث : «ما انفتح من خزائن الربح على قوم عاد إلا قدر حلقة الخاتم ، ولو انفتح مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا »{[11123]}

، وقال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل ، فقرأ : { ولله خزائن السماوات والأرض } ، وقال الجنيد : { خزائن } السماء : الغيوب ، و { خزائن } الأرض : القلوب .


[11118]:قال عنه في التقريب:"شامي مجهول، من الطبقة السابعة".
[11119]:هو الفضل بن عيسى بن أبان الرقاي، أبو عيسى البصري الواعظ، منكر الحديث، ورمي بالقدر، من الطبقة السادسة.
[11120]:التعبير بلفظ"خزنة" كثير في الحديث الشريف، ومنه ما رواه أحمد في مسنده(2-366) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أنفق زوجا-أو قال زوجين- من ماله،- أراه قال: في سبيل الله-دعته خزنة الجنة: يا مسلم، هذا خير هلم إليه)، وما رواه أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال:(خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع فقال: أنا محمد النبي الأمي، قالها ثلاث مرات- ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش...) الخ، أما ما أشار إليه ابن عطية فلم أقف عليه بهذا اللفظ، لكنه ورد بلفظ (خزائن) في الحديث الذي سيذكره المؤلف بعد هذا مباشرة.
[11121]:من الآية (43) من سورة (النور).
[11122]:في بعض النسخ:"ومعنا في التفسير...الخ"، وعلى كل فالتعبير قلق مما يدل على أن فيه تحريفا من النساخ.
[11123]:أخرج ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما فتح الله على عاد من الريح التي هلكوا فيها إلا مثل الخاتم...) الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الريح مسجنة في الأرض الثانية فلما أراد الله أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا، قال: أي رب، أرسل عليهم من الريح قدر منخر ثور؟ قال له الجبار: لا، إذا تكفأ الأرض ومن عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم، فهي التي قال الله:{ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ} (7)

{ هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } .

هذا أيضاً من مقالاتهم في مجامعهم وجماعتهم يقولونها لإخوانهم الذين كانوا ينفقون على فقراء المسلمين تظاهراً بالإِسلام كأنهم يقول بعضهم لبعض تظاهَرْ الإِسلام بغير الإِنفاق مثل قولهم لمن يقول لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، ولذلك عقبت بها . وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن قائل هذه المقالة عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول كما تقدم في طالعة تفسير هذه السورة فإسناد هذا القول إلى ضمير المنافقين لأنهم تقبلوه منه إذ هو رأس المنافقين أو فشا هذا القول بين المنافقين فأخذوا يبثونه في المسلمين .

وموقع الجملة الاستئناف الابتدائي المعْرببِ عن مكرهم وسوء طواياهم انتقالاً من وصف إعراضهم عند التقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وصف لون آخر من كفرهم وهو الكيد للدِّين في صورة النصيحة .

وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في { يقولون } معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم سَتروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح ، أي قد علمتُ أنكم تقولون هذا . وفي إظهار الضمير أيضاً تعريض بالتوبيخ كقوله تعالى : { أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار } [ ص : 60 ] . وليَكون للجملة الاسمية إفادةُ ثبات الخبر ، وليكون الإِتيان بالموصول مشعراً بأنهم عرفوا بهذه الصّلة . وصيغة المضارع في { يقولون } يشعر بأنّ في هذه المقالة تتكرّر منهم لقصد إفشائها .

و { من عند رسول الله } من كانوا في رعايته مثل أهل الصُفّة ومن كانوا يَلحقون بالمدينة من الأعراب العُفاة أو فريق من الأعراب كان يموّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق . روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : « خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناسَ فيه شدة فقال عبد الله بن أُبَيّ : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله » وهذا كلام مَكر لأن ظاهره قصد الرفق برسول الله صلى الله عليه وسلم من كلفة إنفاق الأعراب الذين ألمُّوا به في غزوة بني المصطلق ، وباطنه إرادة إبعاد الأعراب عن تلقي الهدي النبوي وعن أن يتقوى بهم المسلمون أو تفرقُ فقراء المهاجرين لتضعف بتفرقهم بعض قوة المسلمين . وروايات حديث زيد مختلطة .

وقوله : { رسول الله } يظهر أنه صدر من عبد الله بن أُبيّ ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهراً في ملإِ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذٍ بالإِسلام .

و { حتّى } مستعملة في التعليل بطريقة المجاز المرسل لأن معنى { حتى } انتهاء الفعل المذكور قبلها وغايةُ الفعل ينتهي الفاعل عن الفعل إذَا بلغها ، فهي سبب للانتهاء وعلّة له ، وليس المراد فإذا نفضوا فأنفقوا عليهم .

والإِنفضاض : التفرق والابتعاد .

{ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والارض ولكن المنافقين لاَ يفقهون } .

عطف على جملة { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله } إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين ، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العفاة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع عنهم الإِنفاق وذلك دأبَه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب « أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما عندي شيء ولكن ابتع عليَّ فإذا جاءني شيء قضيتُه . فقال عمر : يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أَنفق ولا تخشَ من ذِي العرششِ إقلالاً . فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال : بهذا أُمرتُ » . رواه الترمذي في كتاب « الشمائل » .

وهذا جواب من باب طريقة النقض لكلامهم في مصطلح آداب البحث .

و { خزائن } جمع خزانة بكسر الخاء . وهي البيت الذي تُخزن فيه الطعام قال تعالى : { قال اجعلني على خزائن الأرض } تقدم في سورة يوسف ( 55 ) . وتطلق على الصندوق الكبير الذي يخزن فيه المال على سبيل التوسع وعلى بيوت الكتب وصناديقها ، ومن هذا ما جاء في حديث الصرف من الموطأ } « حتى يحضر خازني من الغابة » .

و { خزائن السماوات } مقارّ أسباب حصول الأرزاق من غيوث رسمية وأشعة الشمس والرياح الصالحة فيأتي ذلك بتوفير الثمار والحبوب وخصب المرعى وتزايد النتاج . وأما خزائن الأرض فما فيها من أهرية ومطاميرَ وأندر ، ومن كنوز الأحوال وما يفتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من البلاد وما يفيء عليه من أهل القرى .

واللام في { لله } الملك أي التصرف في ذلك ملك لله تعالى . ولما كان الإِنفاق على فقراء المسلمين مما يعين على ظهور الدين الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كان الإِخبار بأن الخزائن لله كنايةً عن تيسير الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حصول ما ينفق منه كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له الأنصاري « ولا تَخشَ من ذي العرش إقلالاً » « بهذا أُمرت » . وذلك بما سيره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من زكوات المسلمين وغنائم الغزوات ، وما فتح الله عليه من البلاد بخيراتها ، وما أفاء الله عليه بغير قتال .

وتقديم المجرور من قوله : { ولله خزائن السماوات والأرض } لإِفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا : { لا تنفقوا على من عند رسول الله } حسبوا أنهم إذا قطعوا الإِنفاق على مَن عند رسول الله لا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعاً بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع .

واستدراك قوله : { ولكن المنافقين لا يفقهون } لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا : { لا تنفقوا على من عند رسول الله } كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإِنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر .

والمعنى : أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها .

ومفعول { يفقهون } محذوف ، أي لا يفقهون ذلك وهو مضمون { لله خزائن السماوات والأرض } ، أو نُزل الفعل منزلة اللازم مبالغة في انتفاء فقه الأشياء عنهم في كل حال .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ} (7)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره" هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ "يعني الذين يقولون لأصحابهم "لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْد رَسُولِ اللّهِ" من أصحابه المهاجرين "حتى يَنْفَضّوا" يقول: حتى يتفرّقوا عنه.

وقوله: "ولِلّهِ خَزَائِنُ السّمَوَاتِ والأْرضِ" يقول: ولله جميع ما في السموات والأرض من شيء وبيده مفاتيح خزائن ذلك، لا يقدر أحد أن يعطي أحدا شيئا إلا بمشيته "وَلَكِنّ المُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ" أن ذلك كذلك، فلذلك يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضّوا...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هذا من غاية بخلهم. وقوله تعالى: {حتى ينفضوا} دلالة أنهم أرادوا إطفاء هذا النور وإخفاءه، فأبى الله تعالى إلا إظهاره. وقوله تعالى: {ولله خزائن السماوات والأرض} يبسطها على المنافقين ليمتحنهم بالإنفاق على المؤمنين. أو {ولله خزائن السماوات والأرض} يضيقها على المؤمنين ليمتحنهم بالصبر في حال الضيق. أو يجوز أن يكون هذا بشارة للمؤمنين بأن الله تعالى، يوسع عليهم الدنيا بعد ما ضاقت، وقد جعل حين فتح لهم الفتوح، وآتاهم الغلبة على أعدائهم، والله أعلم...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... (ولله خزائن السموات والارض)...وإذا كان لله خزائن السموات والأرض، فلا يضرك يا محمد ترك إنفاقهم، بل لا يضرون إلا أنفسهم دون أولياء الله والمؤمنين الذين يسبب الله قوتهم ولو شاء الله تعالى لأغنى المؤمنين، ولكن فعل ما هو أصلح لهم وتعبدهم بالصبر على ذلك لينالوا منزلة الثواب (ولكن المنافقين لا يفقهون) ذلك على الحقيقة لجهلهم بعقاب الله تعالى...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

كأنهم مربوطون بالأسباب، محجوبون عن شهود التقدير، غيرُ متحقِّقين بتصريف الأيام، فأنْطَقَهُم بما خَامَرَ قلوبَهم مِنْ تَمَنِّي انطفاء نورِ رسول الله، وانتكاث شَمْلِهم، فتواصَوْا فيما بينهم بقولهم: {لاَ تُنفِقُواْ عَلى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} فقال تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ}. وليس استقلالُك -يا محمد- ولا استقلالُ أصحابِك بالمرزوقين.. بل بالرازق؛ فهو الذي يمسككم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان هذا داعياً إلى السؤال عن الأمر الذي فسقوا به، قال مبيناً له: {هم} أي خاصة بواطنهم {الذين يقولون} أي أوجدوا هذا القول ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير غير محققين بتصريف الأحكام، فأنطقهم ما خامر قلوبهم من تمني إطفاء نور الله فتواصوا فيما بينهم بقولهم: {لا تنفقوا} أيها المخلصون في النصرة {على من} أي الذين {عند رسول الله} أي الملك المحيط بكل شيء، وهم فقراء المهاجرين، وكأنهم عبروا بذلك وهم لا يعتقدونه تهكماً وإشارة إلى أنه لو كان رسوله وهو الغنى المطلق لأغنى أصحابه ولم يحوجهم إلى أن ينفق الناس عليهم... على أنهم ظنوا أن أبواب الرزق تغلق إذا امتنع المنفقون من الناس عن إنفاقهم، وعبروا بحرف غاية ليكون لما بعده حكم ما قبله فقالوا: {حتى ينفضوا} أي يتفرقوا تفرقاً قبيحاً فيه كسر فيذهب أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك،[...] وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله غيرهم للإنفاق، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً، أو كان بحيث لا ينفد...

{ولله} أي قالوا ذلك واستمروا على تجديد قوله والحال أن للملك الذي لا أمر لأحد معه فهو الآمر الناهي {خزائن السماوات} أي كلها {والأرض} كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدرة "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها ما يشاء حتى من أيديهم، لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يد غيره...

{ولكن المنافقين} أي العريقين في وصف النفاق...

{لا يفقهون} أي لا يتجدد لهم فهم أصلاً لأن البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً ما في مكان طلبته مرة أخرى، وهؤلاء رأوا غير مرة ما أخرج الله من خوارق البركات على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويحكي طرفا من فسقهم، الذي استوجب قضاء الله فيهم: (هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا).. وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع...

.ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يسحبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين...

ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية: (ولله خزائن السماوات والأرض. ولكن المنافقين لا يفقهون).. ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم. فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين...

فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في {يقولون} معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم سَتروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح، أي قد علمتُ أنكم تقولون هذا. وفي إظهار الضمير أيضاً تعريض بالتوبيخ... وليَكون للجملة الاسمية إفادةُ ثبات الخبر، وليكون الإِتيان بالموصول مشعراً بأنهم عرفوا بهذه الصّلة. وصيغة المضارع في {يقولون} يشعر بأنّ في هذه المقالة تتكرّر منهم لقصد إفشائها...

وقوله: {رسول الله} يظهر أنه صدر من عبد الله بن أُبيّ ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهراً في ملإِ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذٍ بالإِسلام...

{وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والارض ولكن المنافقين لاَ يفقهون}. عطف على جملة {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العفاة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع عنهم الإِنفاق وذلك دأبَه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب « أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما عندي شيء ولكن ابتع عليَّ فإذا جاءني شيء قضيتُه. فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أَنفق ولا تخشَ من ذِي العرشِ إقلالاً. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال: بهذا أُمرتُ». رواه الترمذي في كتاب « الشمائل»...

وتقديم المجرور من قوله: {ولله خزائن السماوات والأرض} لإِفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} حسبوا أنهم إذا قطعوا الإِنفاق على مَن عند رسول الله لا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعاً بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع. واستدراك قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإِنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر. والمعنى: أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ} وهذا لونٌ من ألوان الحرب الاقتصادية التي كان المنافقون يعملون على التخطيط لها لإبعاد المؤمنين المحيطين بالرسول عنه، وذلك بالإيعاز إلى الأغنياء الذين ينفقون على المهاجرين أو غيرهم من المسلمين المستضعفين ليمتنعوا عن الإنفاق عليهم، ولكنّ الله سبحانه يردّ على هؤلاء بأن الله لم يجعل مصادر الرزق الذي يمد به عباده المؤمنين محصورةً في موردٍ خاصٍ، أو في جماعاتٍ معينةٍ، ليعيشوا المشكلة القاتلة في حياتهم العامة عندما يغلق عنهم هذا الباب أو ذاك. {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} التي تتسع للخلائق كلهم، فلا تضيق عن أحدٍ، ولا تنفذ مواردها مهما امتدت في موارد الحياة كلها، وتلك هي الحقيقة الإيمانية التي تفرضها الألوهية المطلقة المهيمنة على الأمر كله، وعلى الخلق كلهم. {وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ} لاستغراقهم في عقدة النفاق التي تحجب عنهم حقائق العقيدة والحياة، فلا يملكون الانفتاح على الله في آفاق غناه وقدرته المطلقة...