الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ} (7)

روى : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم : ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ، واقتتلا ، فصرخ جهجاه يا للمهاجرين : وسنان : يا للأنصار ؛ فأعان جهجاها جعَّال من فقراء المهاجرين ولطم سنانا . فقال عبد الله لجعال . وأنت هناك ، وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز : نفسه ، وبالأذل ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : ماذا فعلتم بأنفسكم ؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ؛ أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في عزّ من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب ؛ فأخبر زيد رسول الله فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري . فأمر به أنصارياً فقال : فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه ؛ وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني ؟ قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك ، وإن زيداً لكاذب ، وهو قوله تعالى : { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } [ المنافقون : 2 ] فقال الحاضرون : يا رسول الله : شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وهم . وروى أن رسول الله قال له : لعلك غضبت عليه ؛ قال : لا ؛ قال : فلعله أخطأ سمعك ؛ قال : لا ؛ قال : فلعله شبه عليك ؛ قال : لا . فلما نزلت : لحق رسول الله زيداً من خلفه فعرك أذنه وقال : وفت أذنك يا غلام ، إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين . ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة : اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه ، وقال : إنّ حباباً اسم شيطان . وكان مخلصاً وقال : وراءك ، والله ؛ لا تدخلها حتى تقول رسول الله الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله بتخليته . وروي أنه قال له : لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعز لأضربن عنقك ، فقال : ويحك ، أفاعل أنت ؟ قال : نعم . فلما رأى منه الجدّ قال : أشهد أنّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله لابنه : « جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً » ؛ فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت ، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزلت : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } [ المنافقون : 5 ] ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات { سَوآءً عَلَيْهِمْ } الاستغفار وعدمه ، لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم . أو لأن الله لا يغفر لهم . وقرىء : «استغفرت » على حذف حرف الاستفهام ؛ لأنّ «أم » المعادلة تدل عليه . وقرأ أبو جعفر «آستغفرت » ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان ، لا قلبا لهمزة الوصل ألفاً ، كما في : آلسحر ، وآلله { يَنفَضُّواْ } يتفرقوا . وقرىء : «ينفضوا » من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم . وحقيقته : حان لهم أن ينفضوا مزاودهم { وَلِلَّهِ خَزآئِنُ السماوات والأرض } وبيده الأرزاق والقسم ، وهو رازقهم منها ؛ وإن أبي أهل المدينة أن ينفقوا عليهم ، ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون { لاَّ يَفْقَهُونَ } ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان .