معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

قوله تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } ، يعني : مشركي العرب .

قوله تعالى : { ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } . لم يرد به جميع النصارى ، لأنهم في عدواتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين ، وأسرهم ، وتخريب بلادهم ، وهدم مساجدهم ، وإحراق مصاحفهم ، لا ولاء ، ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم ، مثل النجاشي وأصحابه ، وقيل : نزلت في جميع اليهود ، وجميع النصارى ، لأن اليهود أقسى قلباً ، والنصارى ألين قلباً منهم ، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود . قال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ، ويعذبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله منهم من شاء ، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ، ولم يقدر على منعهم ، ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، قال : ( إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً ) وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة ، وهو بالحبشية عطية ، وإنما النجاشي اسم الملك ، كقولهم قيصر ، وكسرى ، فخرج إليها سراً ، أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، وهم عثمان بن عفان ، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم ، فخرجوا إلى البحر ، وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار ، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى ، ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها ، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء ، والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي ، وبطارقته ، ليردوهم إليهم ، فعصمه الله ، وذكرت القصة في سورة آل عمران في قوله تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم } إلى آخر الآية ، فلما انصرفا خائبين ، أقام المسلمون هناك بخير دار ، وأحسن جوار ، إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره ، وذلك في سنة ست من الهجرة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها ، فمات زوجها ويبعث إليه من عنده من المسلمين ، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأعطتها أوضاحاً لها ، سروراً بذلك ، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار ، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله ، فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة ، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين ديناراً ، فردته وقالت : أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً ، وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه ، وقد صدقت محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنت به ، وحاجتي منك أن تقرئيه مني السلام ، قالت : نعم . قالت أبرهة : وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عندها فلا ينكر ، قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فخرج من خرج إليه ، وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه ، وكان يسألني عن النجاشي ، فقرأت عليه من أبرهة السلام ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام ، وأنزل الله عز وجل : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً } يعني : أبا سفيان ( مودة ) ، يعني : بتزويج أم حبيبة ، ولما جاء أبا سفيان تزوج أم حبيبة قال : ذلك الفحل لا يجدع أنفه ، وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبحر في ستين رجلاً من الحبشة ، وكتب إليه ، يا رسول الله ، أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً ، وقد بايعتك ، وبايعت ابن عمك ، وأسلمت لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك ابني أزهى ، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت ، والسلام عليك يا رسول الله . فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه ، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً ، عليهم ثياب الصوف ، منهم اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، وقالوا : آمنا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ، يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر ، وهم السبعون ، وكانوا أصحاب الصوامع ، وقال مقاتل ، والكلبي : كانوا أربعين رجلاً ، اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام . وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلاً ، أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميون من أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم صدقوه ، وآمنوا به ، فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم .

قوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين } ، أي علماء ، قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم .

قوله تعالى : { ورهباناً } ، الرهبان : العباد أصحاب الصوامع ، واحدهم راهب ، مثل فارس وفرسان ، وراكب وركبان ، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين .

قوله تعالى : { وأنهم لا يستكبرون } ، لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم . { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } عن قبول الحق إذا فهموه ، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود . وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

اللام في قوله { لتجدن } لام الابتداء ، وقال الزجّاج هي لام قسم ، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال{[4651]} .

قال القاضي أبو محمد :

وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله ، وهكذا هو الأمر حتى الآن ، وذلك أن اليهود َمَرنوا{[4652]} على تكذيب الأنبياء وقتلهم ، وَدِربوا العتو والمعاصي{[4653]} وَمَردوا{[4654]} على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فهم قد لحجت{[4655]} عداواتهم وكثر حسدهم ، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كَّفر وعروشهم ثَّل{[4656]} ، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة . والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا ، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم{[4657]} ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين ، ويستهينون من فهموا منه الفسق ، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك ، وإذا سالموا فسلمهم صاف ، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق ، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم{[4658]} ، وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس ، وذلك لكونهم أهل كتاب ، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما ُسَّر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار ، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام ، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل{[4659]} إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا . ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين ، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين ، وفي قوله تعالى : { الذين قالوا إنا نصارى } إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم ، وقوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } معناه ذلك بأن منهم بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هدى ، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، فلذلك لا يرى فيهم زاهد ، ويقال «قس » بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب ، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا{[4660]} .

وأما الرهبان فجمع راهب . وهذه تسمية عربية والرهب الخوف ، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير :

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا *** والعصم من شغف العقول الفادر{[4661]}

وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر :

لو عاينت رهبان دير في القلل تحدَّر الرهبان يمشي ونزل{[4662]}

قال القاضي أبو محمد : ويروى و «يزل » بالياء من الزلل ، وهذه الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب ، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون ، وهذا بين موجود فيهم حتى الآن ، واليهودي متى وجد غروراً طغى وتكبر ، وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله ، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه ويعرفوا حاله ، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن ، ولم يزل مؤمناً حتى مات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، وذكر السدي : أنهم كانوا اثني عشر : سبعة عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخِّير فالخِّير ، وذكر السدي : أن النجاشي خرج مهاجراً فمات في الطريق .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة ، وقال قتادة : نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام .

قال القاضي أبو محمد : وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد ، وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً{[4663]} .


[4651]:- يرى ابن عطية أن اللام لام الابتداء، ويخالفه أبو حيان في "البحر"، ورأي الزجاج أنها لام قسم، أما قوله: "ودخلت هذه النون..." فهذا هو رأي الخليل وسيبويه، وليس من رأي الزجاج أو قوله كما قد يُفهم من الكلام.
[4652]:- مرن على الشيء: تعوّد تناوله بدون حياء أو خجل. "المعجم الوسيط- مرن"- والكلمة دقيقة في وصف اليهود.
[4653]:- (درِب) على وزن (فرح) لا تتعدى بنفسها، يقال: درب به دربا ودُربة: اعتاده وأولع به، ودرب على الشيء: مرن وحذق. ولعل الخطأ في الأصول من النساخ، والدليل على ذلك أن أبا حيان قد نقل عبارة ابن عطية هكذا: "وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعلى العتو والمعاصي...الخ" بدون جملة (ودربوا). والعتو: الاستكبار ومجاوزة الحد.
[4654]:- (مرد): جاوز حد أمثاله في الطغيان، أو بلغ غاية يخرج بها من جملتهم، وفي التنزيل العزيز: (مردّوا على النفاق).
[4655]:- لحجت العداوة: يريد تمكنت من صدورهم، ومنه: لحج السيف في غمده بمعنى: نشب فيه ولم يخرج. (المعجم الوسيط).
[4656]:- أصل التعبير: "لأن الإيمان كفّر إياهم، وثلّ عروشهم" فقدم المفعول في الجملتين، ومعنى (تلّ عرشه) أذهب سلطانه، يقال: ثلّ الدار: هدمها، وثلّ الكثيب ثلاّ: هال تُربة. (اللسان).
[4657]:- يريد بالملة: ملّة المسلمين، فالنصارى يعتقدون أن الإسلام لم ينسخ شريعتهم- وقد جاء في بعض النسخ (الآية) بدلا من (الملة).
[4658]:- روى مسلم في "كتاب الفتن وأشراط الساعة" عن موسى بن علي عن أبي قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد معصية، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك".
[4659]:-أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلا يهودي بمسلم إلا همّ بقتله، وفي لفظ: إلا حدّث نفسه بقتله. (الدر المنثور 2/ 302)
[4660]:- القسيس: العالم، وأصله من قسّ إذا تتبّع الشيء فطلبه، قال رؤبة بن العجاج يصف نساء عفيفات لا يتتبعن النمائم: يمسين من قسّ الأذى غوافلا لا جعبريات ولا طهاملا والجعبريات: القصار، واحدتها: جعبرة، والطّهامل: الضخام مع قبح الخلقة، واحدتها: طهملة. والقس أيضا: رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس وقسيس، على مثال: شرّ وشرير، ويجمع قسيس تكسيرا على قساوسة بإبدال إحدى السينين واوا. (راجع: لسان العرب- والقرطبي، وفتح القدير).
[4661]:- هذا البيت لجرير من قصيدة مطلعها: طرب الحمام بذي الأراك فهاجني لا زلت في غلل وأيك ناضر والخطاب في قوله: "لو رأوك" لمن خاطبها في البيت السابق على البيت الذي استشهد به ابن عطية :"يا أم طلحة مالقينا مثلكم"، والعصم: الوعول، وإنما سميت عُصما لبياض في أيديها، والفادر: المسن منها، وجمعه: فُدور، والعقول: المتحرزة =في شغف الجبال، وشعف كل شيء: أعلاه، يقول: لو أن رهبان مدين المعروفين بالنسك والتصون رأوك لنزلوا من صوامعهم، وكذلك الوعول المسنة التي اعتصمت في أعالي الجبال.
[4662]:-روى صاحب اللسان البيت هكذا: لو كلمت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يسعى فنزل ولم ينسبه، بل قال: أنشد ابن الأعرابي، وكذلك رواه في التاج. ورواه في تفسير القرطبي: "لو أبصرت...في الجبل"، وكذلك رواه في "فتح القدير"، أما في "البحر" فقد رواه كما رواه ابن عطية، والقلل: جمع قلة وهي قمة الشيء وأعلاه، وإذا كان الرهبان جمعا كما هو المشهور فالمفرد راهب، الفعل رهب، والترهب هو التعبد في صومعة، قال النابغة: لو أنها عرضت لأشمط راهب عبد الإله صرورة متعبد لرنا لرؤيتها وحسن حديثهـا ولخاله رشدا وإن لم يرشد والصرورة: الذي لم يأت النساء.
[4663]:- أخرج أبو عبيد في فضائله، وابن أبي شيبة في مسنده، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، والحارث بن أسامة في مسنده، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبزار، وابن الأنباري في المصاحف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مدرويه- عن سلمان أنه سئل عن قوله: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} قال: الرهبان الذين في الصوامع، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا"، ولفظ البزار: دع القسيسين: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك بأن منهم قسيسين) فاقرأني: "ذلك بأن منهم صديقين" (الدر المنثور 2/ 304).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

فذلكة لما تقدّم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين ؛ فإنّ الله شنّع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قال : { وليزيدَنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } [ المائدة : 64 ] ، فكرّرها مرّتين وقال : { ترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا } [ المائدة : 80 ] وقال : { وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا وقد دخلوا بالكفر } [ المائدة : 61 ] فعلم تلوّنهم في مضارّة المسلمين وأذاهُم . وذَكر من أحوال النصارى ما شنّع به عقيدتهم ولكنّه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتّخاذ الفريقين أولياء في قوله : { يأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء } [ المائدة : 51 ] الآية . فجاء قوله : { لتجدنّ أشدّ الناس عداوة } الآية فذلكة لحاصل ما تكنّه ضمائر الفريقين نحو المسلمين ، ولذلك فُصلت ولم تعطف . واللام في { لتَجدنّ } لام القسم يقصد منها التأكيد ، وزادته نون التوكيد تأكيداً . والوجدان هنا وِجدانٌ قلبي ، وهو من أفعال العِلم ، ولذلك يُعدّى إلى مفعولين ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولتجدنّهم أحرصَ الناس على حياة } في سورة البقرة ( 96 ) . وانتصب عداوة } على تمييز نسبة { أشدّ } إلى النّاس ، ومثله انتصاب { مودّة } .

وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين ، فقد ألّف بين اليهود والمشركين بُغض الإسلام ؛ فاليهود للحسد على مجيء النبوءة من غيرهم ، والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحقّ ونبذ الباطل .

وقوله : { ولتجدنّ أقربهم مودّة } أي أقرب النّاس مودّة للذين آمنوا ، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام . وهذان طرفان في معاملة المسلمين . وبين الطرفين فِرق متفاوتة في بغض المسلمين ، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطّلة .

والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة ، لقوله : { أقربهم مودّة للذين آمنوا } . فأمّا من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين .

وقد تقدّم الكلام على نظير قوله : { الذين قالوا إنّا نصارى } في قوله تعالى : { ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم } [ المائدة : 14 ] ، المقصودِ منه إقامة الحجّة عليهم بأنّهم التزموا أن يكونوا أنصاراً لله { قال الحواريّون نحن أنصار اللّهِ } [ الصف : 14 ] ، كما تقدّم في تفسير نظيره . فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودّة المسلمين فيتّبعوا دين الإسلام .

وقوله : { ذلك } الإشارة إلى الكلام المتقدّم ، وهو أنّهم أقرب مودة للذين آمنوا . والباء في قوله : { بأنّ منهم قسّيسين } باء السببية ، وهي تفيد معنى لام التعليل . والضمير في قوله { منهم } راجع إلى النصارى .

والقِسّيسون جمع سلامة لقِسّيس بوزن سِجّين . ويقال قَسّ بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية . وقال قطرب : هي بلغة الروم . وهذا ممّا وقع فيه الوفاق بين اللغتين .

والرهبان هنا جمع راهب ، مثل رُكْبان جمع راكب ، وفُرسان جمع فارس ، وهو غير مقيس في وصففٍ على فاعل .

والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة . وقال الراغب : الرهبان يكون واحداً وجمعاً ، فمَن جعله واحداً جمعَه على رهابين ورَهابنة . وهذا مروي عن الفرّاء . ولم يحك الزمخشري في الأساس أنّ رهبان يكون مفرداً . وإطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي :

لو أبصَرَتْ رهبانَ دَير بالجَبل *** لانحدر الرّهْبان يَسْعى ويزِل

وإنّما كان وجود القسّيسين والرهبان بينهم سبباً في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حُسن أخلاق القسّيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم . وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمّرون الأديرة والصَوامع والبِيع ، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغَتْهم دعوة النصرانية على طريق الروم ، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم . قال النابغة :

لو أنَّها برزت لأشمَط راهِب *** عبدَ الإله صَرورة مُتَعَبِّد

لرَنَا لطلعتها وحسن حديثهـا *** ولخَالَه رَشداً وإن لَم يَرْشَد

فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سبباً في صلاح أخلاق أهل ملّتهم . والاستكبار : السين والتاء فيه للمبالغة . وهو يطلق على التكبّر والتعاظم ، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ ، وهما متلازمان . فالمراد من قوله : { لا يستكبرون } أنَّهم متواضعون منصفون . وضمير { وأنّهم لا يستكبرون } يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير { بأنّ منهم } ، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون ، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر . وقد كان نصارى العرب متحلِّينَ بمكارم من الأخلاق . قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين :

مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلهِ ودينُهـــم *** قويم فما يرجُون غيرَ العواقب

ولا يحسبون الخيرَ لا شرّ بعده *** ولا يحسبون الشرّ ضربة لاَزب

وظاهر قوله { الّذين قالوا إنّا نصارى } أنّ هذا الخُلُق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العُرفي ، وهم نصارى العرب ، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضَمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارمَ أخلاق دينية ، كما كان عليه زهير ولبيد ووَرقة بنُ نوفل وأضرابهم .

وضمير { وأنّهم لا يستكبرون } عائد إلى { قسّيسين ورهباناً } لأنّه أقرب في الذكر ، وهذا تشعر به إعادة قوله { وأنّهم } ، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير ، وتَكون ضمائر الجمع من قوله { وإذا سَمعوا إلى قوله فأثابهم الله } [ المائدة : 83 85 ] تابعة لضمير { وأنّهم لا يستكبرون } .

وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى مَعَادَين هي سياق الكلام . ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى : { وعَمَرُوها أكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها } [ الروم : 9 ] . فضمير الرفع في { عمروها } الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في عمروها الثاني . وكقول عبّاس بن مرداس :

عُدْنَا ولولاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم *** بالمسلمين وأحرزُوا مَا جَمَّعوا

يريد بضمير ( أحرزوا ) جماعة المشركين ، وبضمير ( جمَّعوا ) جماعة المسلمين .

ويعضّد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسّرين عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما : أنّ المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستّين راهِباً من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا .

وهم : بَحِيرا الراهب ، وإدريس ، وأشرف ، وأبرهة ، وثمامة ، وقثم ، ودريد ، وأيمن ، أي مِمَّن يحسنون العربية ليتمكّنوا من فهم القرآن عند سماعه . وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة ، سنة سبع فكانت الإشارة إليهم في هذه الآية تذكيراً بفضلهم . وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معيّنون من النصارى أسلموا في زمن الرسول . ولَعلّ اللّهَ أعلَم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمد في قلوبهم ولم يتمكّنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلاّ شيء قليل تمسّكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمّى بالإسلام ، وهؤلاء يشبه حالهم حالَ من لم تبلغه الدعوة ، لأنّ بلوغ الدعوة متفاوت المراتب . ولعلّ هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن . ولا شكّ أنّ النجاشي ( أصْحَمة ) منهم . وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النّبيء . والمقصود أنّ الأمّة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودّة المسلمين .

والرسول هو محمّد كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن . وما أنزل إليه هو القرآن .