قوله : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً )( {[17442]} ) الآية [ ( {[17443]} )84-86 ] .
قوله : ( قِسِّيسِينَ ) هو جمع ( قسّيس )( {[17444]} ) مسلماً ، ( و )( {[17445]} ) تكسيره على ( قساوسة ) ، أُبدل من إحدى السينات( {[17446]} ) واواً( {[17447]} ) . ويقال : ( قَسٌّ ) في معناه ، وجمعه ( قُسُوس )( {[17448]} ) ، ويقال للنميمة( {[17449]} ) ( قَسَّ )( {[17450]} ) .
ورهبان( {[17451]} ) جمعه( {[17452]} ) رهابنة( {[17453]} ) ورهابين( {[17454]} ) .
والمعنى : لتجدن –يا مُحَمَّد- أشد الناس عداوة للذين اتبعوك ، فآمنوا( {[17455]} ) بك ( اليَهُودُ وَالذِينَ أَشْرَكُوا ) ، وهم عبدة الأوثان ، ولتجدن أقربهم مودة لمن آمن بك ، النصارى( {[17456]} ) .
( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ) عن الحق( {[17457]} ) .
وهذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر من نصارى( {[17458]} ) الحبشة لما سمعوا القرآن أسلموا( {[17459]} ) . " وقيل : إنها نزلت( {[17460]} ) في النجاشي ملك الحبشة وَأصْحَابٍ( {[17461]} ) له أسلموا " ( {[17462]} ) .
قال سعيد بن جبير : بعث النجاشي وفداً( {[17463]} ) إلى النبي ، فقرأ عليهم القرآن فأسلموا ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم( {[17464]} ) .
قال ابن عباس : بعث النبي –وهو بمكة ، حين خاف على أصحابه من المشركين- نفراً إلى النجاشي ، منهم : ابن مسعود وجعفر بن أبي طالب( {[17465]} ) ، فبلغ ذلك المشركين ، فبعثوا عمرو( {[17466]} ) بن العاصي( {[17467]} ) في رهط إلى النجاشي يحذرونه من محمد ، فسبق أصحاب المشركين ، فقالوا للنجاشي : خرج فينا رجل سفه( {[17468]} ) عقول قريش وأحلامها( {[17469]} ) وقد بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك بخبرهم ، قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون ( لي )( {[17470]} ) ، فقدم أصحاب النبي ، فأتوا باب النجاشي ، وقالوا( {[17471]} ) : استأذِنوا لأَولياء الله ، فقال : ائذن( {[17472]} ) لهم ، فمرحباً( {[17473]} ) بأولياء الله . فلما دخلوا عليه ، سلموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى –أيها الملك- لم يحيوك( {[17474]} ) بتحيتك( {[17475]} ) ! فقال لهم : ما منعكم أن تحيوني( {[17476]} ) بتحيتي( {[17477]} ) . فقالوا له : إِنّا حَيَّيْنَاكَ بتحيةِ أهل الجنة وتحية الملائكة . فقال ( لهم )( {[17478]} ) : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ [ قالوا ]( {[17479]} ) : هو عبد الله وكلمة من الله وروح منه ، ألقاها إلى مريم( {[17480]} ) ، ويقول في مريم : إنها العذراء( {[17481]} ) البتول( {[17482]} ) . قال : فأخذ عوداً من الأرض ( وقال )( {[17483]} ) : " ما زاد عيسى وأمَّه على ما قال صاحبكم قدرَ هذا العود " ، فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم . قال لهم النجاشي : هل تعرضون( {[17484]} ) شيئاً مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم ، قال : اقرأوا ، فقرأوا ، وهناك قسيسون( {[17485]} ) ورهبان( {[17486]} ) ونصارى ، فعرفت كل ما قرأوا ، وانحدرت( {[17487]} ) دموعهم مما عرفوا من الحق ، فأنزل الله الآية( {[17488]} ) .
وقال الكلبي : كانوا أربعين رجلاً : اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام ، فأسلموا( {[17489]} ) حين هاجر إليهم المؤمنون وسمعوا القرآن فعرفوا الحق وانقادوا إليه( {[17490]} ) ، وكانت اليهود أشد عداوة( {[17491]} ) لمن آمنوا برسول الله يومئذٍ بالمدينة ، وكذلك كانت قريش لمن آمن بمكة( {[17492]} ) .
وقيل : إن الذي قرأ على النجاشي هو جعفر بن أبي طالب قرأ عليه أول سورة مريم .
وقال السدي : بعث النجاشي اثني( {[17493]} ) عشر من الحبشة : سبعة " قسيسون( {[17494]} ) وخمسة " رهبان( {[17495]} ) ، ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه ، فلما لقوه قرأ عليهم ما أنزل الله ، فبكوا وآمنوا ، /
وأنزل الله فيهم : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [ مِمَّاعَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ]( {[17496]} ) ) ، فرجعوا( {[17497]} ) إلى النجاشي فآمن وهاجر بمن معه ، فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له( {[17498]} ) .
وروى ابن شهاب( {[17499]} ) عن أم سلمة( {[17500]} ) –زوج النبي عليه السلام ، وكانت قد هاجرت إلى أرض الحبشة مع من هاجر من مكة من المسلمين حين آذاهم المشركون –فقالت : لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار- النجاشي- ، أمِنَّا( {[17501]} ) على ديننا ، وعَبَدْنا الله عز وجل ، لا نُؤذَى ولا نَسمَع شيئاً نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ، ائتمروا( {[17502]} ) بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين( {[17503]} ) جَلْدَيْنِ( {[17504]} ) ، وأن يهدوا له هدايا( {[17505]} ) مما يستظرف( {[17506]} ) من متاع مكة ، فجمعوا له هدايا( {[17507]} ) ولم يتركوا بطريقاً( {[17508]} ) من بطارقته إلا أهدوا إليه هدية ، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة( {[17509]} ) وعمرو( {[17510]} ) بن العاصي ، وقالوا لهما : ادفعا( {[17511]} ) إلى كل بطريق ( منهم )( {[17512]} ) هديته قبل أن تُكَلِّما( {[17513]} ) النجاشي فيهم ، ثم قدما إلى النجاشي هداياه( {[17514]} ) ، ثم سَلاَهُ أن يُسَلِّمَهُم إليكما قبل أن يكلمهم .
قالت أم سلمة : فخرجا حتى قدما على النجاشي –ونحن عنده بخير دار عند خير جار- فلم يبق من بطارقته بِطْريق( {[17515]} ) إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، وقالا لكل بطريق( {[17516]} ) : " إنه قد صبأ( {[17517]} ) إلى بلاد الملك مِنّا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مُبْتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومنا لنردهم( {[17518]} ) إليهم ، فإذا كلمنا( {[17519]} ) الملك فيهم ، فأَشِيروا( {[17520]} ) على أن يُسَلِّمَهم إلينا ولا يكلّمهم( {[17521]} ) ، فإن قومهم أعلم( {[17522]} ) بما عابوا( {[17523]} ) عليهم فقالوا لهما : نعم ، ثم إنهما قربا هدية( {[17524]} ) النجاشي فقبلها منهما ، ثم كلّماه فقالا : أيها الملك ، إنه قد صبأ إليك منا غلمان سفهاء( {[17525]} ) فارقوا( {[17526]} ) دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، ابتدعوا ديناً لا نعرفه نحن ولا أَنْتَ ، وقد بَعَثَنا إليك فيهم أشرافُ قومنا من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لنردهم( {[17527]} ) إليهم( {[17528]} ) ، فهم أعلى( {[17529]} ) بهم عيناً ، وأعلم بما( {[17530]} ) عابوا( {[17531]} ) عليهم . فقالت البطارقة من حوله : صدقاً –أيها الملك- ، فأَسْلِمْهُم إليهما . قالت( {[17532]} ) : فغضب النجاشي ( وقال )( {[17533]} ) : لاها الله اذن( {[17534]} ) ، وَلاَ أُسْلِمُهُم( {[17535]} ) ، ( ولا يكاد قومٌ جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني من سواي )( {[17536]} ) حتى أدعوهم [ فأسألهم ]( {[17537]} ) عما يقول هذان( {[17538]} ) في أمرهم ، فإن( {[17539]} ) كانوا كما [ يقولان ]( {[17540]} ) ، أسلَمتهم إليهما ورددتُهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غَير ذلك ، منعتهم ( منهم )( {[17541]} ) ، وأحسنت جوارهم ما [ جاوروني ]( {[17542]} ) .
قالت أم سلمة : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله( {[17543]} ) وعمرو( {[17544]} ) بن العاصي من أن يسمع النجاشي كلام المؤمنين ، فدعا النجاشي المؤمنين ، فلما جاءهم رسول النجاشي ، اجتمعوا ، فقال بعضهم لبعض : ما تقولون اذا( {[17545]} ) جئتموه ؟ ( {[17546]} ) قالوا : نقول –والله- ما علّمنا نبيُّنا( {[17547]} ) وما أمرنا كائناً في ذلك ما كان . فلما جاءوا –وقد دعا النجاشي أساقِفَته فنشروا مصاحبهم( {[17548]} ) حوله( {[17549]} )- سألهم( {[17550]} ) فقال : ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا ( به )( {[17551]} ) في ديني( {[17552]} ) ، ولا ( في )( {[17553]} ) دين أحد من [ هذه ]( {[17554]} ) الملل( {[17555]} ) ؟ ، ( و )( {[17556]} ) قالت أم سلمة : فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال له : أيها الملك كنَّا قوماً ، -أهلَ جاهلية- نعبد( {[17557]} ) الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش( {[17558]} ) ونقطع الأرحام ، نُسيء الجِوار ، ويأكل القويُّ ( الضعيفَ ، فكنا على ذلك )( {[17559]} ) حتى ( بعث )( {[17560]} ) الله إلينا رسولاً منّا ، نعرف نسبَه( {[17561]} ) وصِدْقَه وأَمانَتَه وعافيته( {[17562]} ) ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده( {[17563]} ) ، ونَخْلَعُ ما كنّا( {[17564]} ) نعبد( {[17565]} ) نحن وآباؤنان الحجارة( {[17566]} ) والأوثان ، وأمَرنا بِصِدْق الحديث وردِّ الأمانة وصِلَة الرحم وحُسنُ الجِوار والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقولِ( {[17567]} ) الزور وأكل ( مال )( {[17568]} ) اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأمَرَنا أن نعبدَ الله ولا نشرك به شيئاً ، وأمَرنَا بالصلاة والزكاة وبالصيام . –قالت أم سلمة : فَعَدَّدَ عليه أمور الإسلام- فصدّقنا وآمنّا به ، واتّبعناهُ على ما جاءنا( {[17569]} ) به من عند الله ، وحرَّمنا ما حرَّم علينا ، وأَحْلَلنا( {[17570]} ) ما أحلَّ لنا ، فَعَدا علينا قومنا فعذَّبونا وفَتنونا( {[17571]} ) عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ، وأن نستحلَّ ما كُنَّا نستحلُّ من الخبائث( {[17572]} ) فلما قَهَرونا( {[17573]} ) ( وظَلَمونا )( {[17574]} ) وضَيّقوا( {[17575]} ) علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا( {[17576]} ) إلى بلادك( {[17577]} ) ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ( أن لا )( {[17578]} ) نظلم عندك أيها الملك .
قالت أم سلمة : فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله ( من )( {[17579]} ) شيء ؟ ، قال( {[17580]} ) له جعفر : نعم ، قال : فَاقْرَأْهُ عليَّ . قالت : فقرأ( {[17581]} ) عليه صدراً من ( كَهيعَصَ )( {[17582]} ) ، فبكى( {[17583]} ) النجاشي ( وبكى أساقفته حِينَ سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي )( {[17584]} ) : إن هذا والذي جاء به عيسى لَيَخرُج من مِشْكاة واحدة ، انطلقا( {[17585]} ) ، فوالله لا أسْلِمْهم إليكما أبداً ، ثم قال لجعفر ( وأصحابه ) ( {[17586]} ) : اذهبوا فأنتم شُيُومٌ( {[17587]} ) بأرضي –والشُّيُومُ في لسانهم : الآمنون( {[17588]} )- ، من سبَّكُم [ غَرِم ]( {[17589]} ) ، من سبّكم [ غَرِم ]( {[17590]} ) ، قالها( {[17591]} ) ثلاثاً( {[17592]} ) ، ثم قال : رُدُّوا عليهما هداياهما( {[17593]} ) ، فلا حاجة لي بها ، ( فوالله )( {[17594]} ) ما أخذ [ الله ]( {[17595]} ) ( الرشوة مني )( {[17596]} ) حين رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي فآخُذُ( {[17597]} ) الرشوة ( فيه )( {[17598]} ) ، وما أطاع( {[17599]} ) الله الناس( {[17600]} ) فيَّ فأطيعهم فيه . قالت أم سلمة : فخرجا( {[17601]} ) من عنده مقبوحين( {[17602]} ) .
ففي النجاشي وأصحابه نزل ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ ]( {[17603]} ) ) الآيات( {[17604]} ) .
قالت عائشة رضي الله عنها في قول النجاشي : " ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخُذُ الرشوَة فيه ، وما أطاع الله الناس فيّ( {[17605]} ) فأطيع الناس فيه " ، قالت : إن أباه كان ملك قومه ، ولم يكن له ولد غيره ، وكان للنجاشي عم ، له من صلبه اثنا( {[17606]} ) عشر ولداً ، فقالت الحبشة بينهم( {[17607]} ) : لو قتلنا أبا النجاشي ، وملَّكْنا أخاه ، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام ، وإن لأخيه من صلبه [ اثني ]( {[17608]} ) عَشَرَ ولداً ، فيتوارثوا الملك من بعده وتبقى الحبشة بعده دهراً( {[17609]} ) . فَغَدوا( {[17610]} ) على أبي النجاشي فقتلوه ، وملّكوا أخاه ، فمكثوا على ذلك حينا( {[17611]} ) . ونشأ النجاشي مع عمه( {[17612]} ) ، وكان لبيباً حازماً من الرجال ، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ( {[17613]} ) عَمِّه ( ونزل )( {[17614]} ) منه بكل منزلة( {[17615]} ) ، فلما رأت الحبشة مكَانَه من عمِّه قالت بينهم( {[17616]} ) : والله لقد غَلَب هذا الفتى على أمر عمّه ، وإنا لنتخوف أن يُمَلِّكه علينا ، وَإِنْ مَلَّكَه ( علينا )( {[17617]} ) ليقتلنا( {[17618]} ) أجمعين ، لقد عَرَفَ أَنَّا نحْن قتلنا أباه . فَمَشَوا إلى عمه فقالوا( {[17619]} ) : إمّا أن تقتل هذا الفتى ، وإما أن تُخرجه من بين أظهرنا ، فإنا قد خِفْنا( {[17620]} ) على أنفسنا . فقال : ويلكم ، قَتلتُم أباهُ بالأمس وأقتُلهُ اليومَ ؟ ، بل أُخرجُه من بلادكم ، فخرجوا به إلى السوق فباعوه [ من رجل ]( {[17621]} ) من التجّار بست مائة درهم ، فقذفه في سفينة( {[17622]} ) وانطلق به حتى [ إذا ]( {[17623]} ) [ العشيّ ]( {[17624]} ) من ذلك اليوم ، هاجت( {[17625]} ) سحابة( {[17626]} ) من سحائب الخريف( {[17627]} ) فخرج عمّه يستمطر تحتها ، فأصابته صاعقة ، فقتلته ففزعت الحبشة إلى ولده( {[17628]} ) فإذا هم حمق ، ليس في واحد منهم خير ، فمرج( {[17629]} ) على الحبشة أمرُها ، فلما ضاق عليهم أمرهم ، قال بعضهم لبعض ، تَعْلَموا –والله- أن مَلِككم –الذي لا يقيم أمركم غيرُه- الذي( {[17630]} ) بعتم ، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه .
قالت : / فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه ، فأخذوه منه وجاءوا به ، وعقدوا عليه التاج ، وأقعدوه على سرير الملك ، فملَّكوه أنفسهم ، فجاءهم التاجر الذين كانوا باعوه منه ، فقال : إما أن تعطوني مالي ، وإما أن أكلمه( {[17631]} ) في ذلك ؟ فقالوا : لا نعطيك شيئاً . قال : إذن( {[17632]} ) والله أكلمه( {[17633]} ) . قالوا( {[17634]} ) : فدونك( {[17635]} ) .
قالت( {[17636]} ) : فجاءه التاجر ، فجلس بين يديه ، فقال : أيها الملك ، ابتعتُ غلاماً من قوم بالسوق بست مائة درهم فأسلموا إليّ غلامي ( وأخذوا دراهمي( {[17637]} ) حتى إذا سِرْت ، خرجت بغلامي ، أدركوني فأخذوا غلامي مني ومنعوني دراهمي( {[17638]} ) . فقال( {[17639]} ) لهم النجاشي : لتُعْطُنَّه( {[17640]} ) دراهمه ، أو ليضعن( {[17641]} ) غلامه )( {[17642]} ) يده في يده ، فليذهبن به حيث شاء . قالوا : [ بل ]( {[17643]} ) نعطيه دراهمه .
قالت : فلذلك قال : ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيّ فأطيع( {[17644]} ) الناس فيه . قالت : وكان ذلك أول ما خبر من صلابته( {[17645]} ) في دينه ، وعدله في حكمه( {[17646]} ) .
وقالت عائشة رضي الله عنها : لما مات النجاشي ، كان يُتَحَدَّثُ( {[17647]} ) أنه لا يزال( {[17648]} ) نور يرى على قبره( {[17649]} ) .
وقال ابن جبير : هم سبعون رجلاً وجَّهَ بهم النجاشي ، وكانوا ذوي فقه وسنن( {[17650]} ) ، فقرأ عليهم النبي ( يَسِ( {[17651]} ) ) ، فبكوا ، وقالوا : ( رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) وفيهم نزل : ( الذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ( {[17652]} ) مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ مُومِنُونَ ) إلى قوله ( يُوتَوْنَ( {[17653]} ) أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ )( {[17654]} ) إلى آخر الآية( {[17655]} ) .
وقال قتادة : هم ناس كانوا على الحق من شريعة عيسى ، ثم آمنوا بالنبي عليه السلام( {[17656]} ) .
والرهبان يكون واحداً وجمعاً ، وإذا كان( {[17657]} ) جمعاً فواحده : " راهب " ، وإذا كان واحداً( {[17658]} ) فهو كقربان ، وجمعه : رهابين ، مثل قرابين( {[17659]} ) .