إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً للذِينَ آمنوا اليهود والذين أَشْرَكُوا } جملة مستأنَفة مَسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعَراقتهم في الكفر ، وسائرِ أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتُهم للمشركين . أُكِّدت بالتوكيد القسَميّ اعتناءً ببيان تحققِ مضمونها ، والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد صالح له ، إيذاناً بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس . والوُجدانُ متعدَ إلى اثنين ، أحدُهما أشدُّ الناس ؛ والثاني اليهودُ وما عُطف عليه ، وقيل : بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأٌ وخبر ، ومصبّ الفائدة هو الخبرُ لا المبتدأ ، ولا ضيرَ في التقديم والتأخير إذ دل على الترتيب دليل ، وهاهنا دليل واضح عليه ، وهو أن المقصودَ بيانُ كون الطائفتين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين ، لا كونِ أشدِّهم عداوةً لهم الطائفتين المذكورتين ، وأنت خبير بأنه بمعزل من الدلالة على ذلك ، كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتمّ وأكملُ مع خلوها عن تعسُّف التقديم والتأخير ، إذ المعنى أنك إن قصدتَ أن تعرِفَ من أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين وتتبعْتَ أحوالَ الطوائف طُراً وأحطتَ بما لديهم خُبْراً ، وبالغْتَ في تعرُّف أحوالهم الظاهرةِ والباطنة ، وسعَيْتَ في تطلُّب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة ، لتجدن الأشدَّ تَيْنِك الطائفتين لا غيرُ فتأملْ . واللام الداخلة على الموصول متعلقةٌ ( بعداوةً ) مقويةٌ لعملها ، ولا يضرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء مبنية عليها ، كما في قوله : ورهبةً عقابَك ، وقيل : متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لعداوة ، أي كائنةً للذين آمنوا ، وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعُف كفرهم ، وانهماكهم في ابتاع الهوى ، وقربهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرُّنهم على التمرّد والاستعصاء على الأنبياء ، والاجتراء على تكذيبهم ومُناصَبَتِهم . وفي تقديم اليهود على المشركين بعد لَزِّهما{[185]} في قَرنٍ واحد إشعارٌ بتقدمهم عليهم في العداوة ، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُوا } [ البقرة ، الآية 96 ] إيذاناً بتقدُّمهم عليهم في الحرص ، { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ موَدَّةً للذِينَ آمنوا } أعيد الموصول مع صلته رَوْماً لزيادة التوضيح والبيان { الذين قَالُوا إِنَّا نصارى } عبر عنهم بذلك إشعاراً بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصارُ الله وأَوِدّاءُ أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام ، وعلى هذه النكتة مبنى الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى : { وَمِنَ الذين قَالُوا إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم } [ المائدة ، الآية 14 ] والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق ، والعدولُ عن جعْل ما فيه التفاوتُ بين الفريقين شيئاً واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخِراً : ولتجدن أضعفَهم عداوة الخ ، أو بأن يقال : أولا لتجدن أبعد الناس مودة الخ ، للإيذان بكمال تبايُن ما بين الفريقين من التفاوتِ ببيان أن أحدَهما في أقصى مراتبِ أحدِ النقيضين ، والآخَرَ في أقربِ مراتب النقيض الآخر . { ذلك } أي كونهم أقربَ مودةً للمؤمنين { بِأَنَّ مِنْهُمْ } أي بسبب أن منهم { قِسّيسِينَ } وهم علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم ، والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل ، سُموا به لمبالغتهم في تتبع العلم ، قاله الراغب ، وقيل : القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيساً لتتبعه العلم ، وقيل : قصَّ الأثرَ وقسه بمعنى ، وقيل : إنه أعجمي ، وقال قُطرُبُ : القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم ، وقيل : ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه ، وبقي منهم رجل يقال له : قِسيسُ لم يبدِّلْ دينه ، فمن راعى هديه ودينه قيل له : قسيس . { وَرُهْبَاناً } وهو جمع راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان ، وقيل : إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قال : [ الرجز ]

لو عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل *** لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ{[186]}

والترهب التعبد في الصومعة ، قال الراغب : الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف ، والتنكير لإفادة الكثرة ، ولابد من اعتبارها في القسيسين أيضاً ، إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين ، فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها ، وإلا فمن اليهود أيضاً قوم مهتدون ، ألا يُرى إلى عبد اللَّه بن سلام وأضرابه ، قال تعالى : { منْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيات الله آنَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران ، الآية 113 ] الخ ، لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عطف على ( أن منهم ) ، أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموه ، ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود ، وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة ، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر .


[185]:لزّه: شدّه وألصقه. والقَرَن، بالتحريك: هو الحبل.
[186]:رواية لسان العرب (رهب): لو كلّمت رهبان دير في القلل.. الخ. وأنشده ابن الأعرابي.