تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

العداوة : البغضاء .

المودة : المحبة .

القَس : جمعه قُسوس ، والقسيس : جمعه قسيسون ، الذي يكون بين الشمّاس ، والكاهن .

الراهب : العابد المنقطع عن الناس في دير أو صومعة حرم نفسه فيها من التنعم بالزواج ولَذَّات الطعام .

نزلت هذه الآية في نجاشي الحبَشَة وأصحابه ، حين هاجر فريق من المسلمين إلى هناك . قالت أم سَلَمة وكانت من المهاجرات إلى الحبشة قبل أن يتزوجها الرسول الكريم : لما نزلنا بأرض الحبشة جاوَرَنا بها خيرٌ جارٍ ، النجاشي . . أمِنّا على ديننا وعبدْنا الله تعالى ، لا نؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه .

وقد بقي المهاجرون فيها إلى أن هاجر الرسول الكريم إلى المدينة ، ولم يقدِروا الوصول إليه ، فقد حالت بينهم وبينه الحرب .

فلما كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش ، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة ، فابعثوا إلى سيّدها رجلين من ذوي الرأي فيكم مع هدايا له ولرجاله لعلّه يعطيكم مَن عنده فتقتلونهم بقتلى بدر . فبعث كفار قريش عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا . فخرجا حتى قدما على النجاشي ، فأهَدوا إلى البطارقة مما معهما من الهدايا ، وطلبوا منهم أن يساعدوهما عند الملك بأن يسلّمهما أولئك المهاجرين . ثم قابلا النجاشي وقدّما له هداياهما فقبلها منهما . ثم كلماه فقالا له : أيها الملك ، قد جاء إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت . وقد بعثنا من آبائهم وأعمامهم أشرافُ قومه لتردهم إليهم . فقالت بطارقته حوله : صدَقا أيها الملك ، فأسلمْهُم إليهما . فغضب النجاشي ثم قال : لا واللهِ لا أُسلمهم حتى أدعوَهم ، فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم . ثم أرسَل إليهم . فلما جاؤوا ، قال لهم النجاشي وأساقفته : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ، ولا في دين أحد ؟

فقام جعفر بن أبي طالب ، فقال : أيها الملك ، كنا قوماً أهلَ جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويُّ منا الضعيف . وظللنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا ، نعرف نسبه وصدقه وعفافه ، فدعانا إلى الله ، أن نوحّده ونعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد قبله من الحجارة والأوثان . ولقد أمرَنا بصِدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء . كما نهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكلِ مال اليتيم ، وقذف المحصنات . أمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . فصدّقناه وآمّنا به ، واتّبعناه على ما جاء به من الله . . .

فعدا علينا قومُنا فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا لنرتدّ إلى عبادة الأوثان . . . فلمّا قهرونا وضيقوا علينا ، خرجنا إلى بلادك ، ورغبنا في جوارك .

فقال النجاشي : هل معك مما جاء به من الله من شيء ؟ قال جعفر : نعم أول سورة مريم . قالت أم سلمة : فبكى والله النجاشي ، حتى اخضلّت لحيته . وبكت أساقفته حين سمعوا ما تلا جعفر . ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة . انطلِقا ، فوالله لا أسلّمهم إليكما . الخ القصة .

فهذه القصة من أسباب نزول هذه الآيات . فبعد أن حاجّ اللهُ تعالى أهل الكتاب ، وذكر مخالفتهم لكتبهم وأنبيائهم ، وأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعبا ، وبلغت الجرأة باليهود أن يتطاولوا على الله بقولهم { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } ، وأن النصارى اعتقدوا بأن المسيح ابن الله ، ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ، أو محبتهم لهم . ومقدار تلك العداوة أو المحبة :

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ }

قسَمَاً أيها الرسول ، لسوف تجد أشد الناس عداوة لك وللمؤمنين معك ، اليهودَ والمشركين من عبدة الأصنام . وقد وقع ذلك . فإن أشد إيذاء واجهه النبي عليه السلام إنما كان من اليهود في المدينة وما حولها ، ومن مشركي العرب ، ولا سيما قريش .

ويشترك اليهود والمشركون في بعض الصفات والأخلاق ، كالتكبّر والغرور ، وحب المادّة ، والقسوة . والمعروف عن اليهود أنهم يعتبرون كل من عداهم لا حرمة له ولا قيمة ، فكل مَن كان غير يهودي مباح لهم دمه وماله وعرضه ، هذا مقرَّر في تلمودهم .

{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى }

أما أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدّقوك فهم النصارى . رأى النبي من نصارى الحبشة أحسن المودة . ولما أرسل كتبه إلى الملوك ورؤساء الدول كان النصارى منهم أحسنَ ردا ، واستقبالاً للرسل . والواقع أن مودة النصارى للمسلمين في عصر النبي الكريم كانت ظاهرة ملموسة .

{ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً . . . }

وسببُ تلك المودّة أن فيهم قسيسين يعلّمون دينهم ، ورهبانا يخشون ربهم . هذا كما أنهم لا يستكبرون عن سماع الحق واتّباعه .