البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

القَسَّ بفتح القاف تتبّع الشيء .

قال رؤبة :

أصبحن عن قَسّ الأذى غوافلا *** يمشين هوناً حُرَّداً بهاللا

ويقال قَسَّ الأثر تتبعه ، وقصه أيضاً .

والقسَّ : رئيس النصارى في الدين والعلم ، وجمعه قسوس ، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدّين ، وكذلك القِسّيس فِعّيل كالشِّرِّيب ، وجمع القِسِّيس بالواو والنون ، وجمع أيضاً على قَساوِسَة ، قال أمية بن أبي الصلت :

لو كان منقلب كانت قساوسة *** يحييهم الله في أيديهم الزُّبُرُ

قال الفرّاء : هو مثلُ مَهَالبة ، كثرت السيئات فأبدلوا إحداهنّ واواً ، يعني أن قياسه قساسنة .

وزعم ابن عطية أن القسّ بفتح القاف وكسرها ، والقِسّيس اسم أعجمي عُرّب .

{ لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } .

قال قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى ، آمنوا بالرسول ، فأثنى الله عليهم ، قيل هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع ، وقيل هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف ، اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من الشام ، وهم بحير الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن ، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يس ، فبكوا وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ، فأنزل الله فيهم هذه الآية .

وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران ، واثنين وثمانين من الحبشة ، وثمانية وستين من الشام .

وروي عن ابن جبير قريب من هذا ، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم ، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتوّ والمعاصي ، واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فتحرّرت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم ، وفي الحديث : « ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله » وفي وصف الله إياهم بأنهم أشدّ عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق ، ولذلك قلّ إسلام اليهود .

وقيل { اليهود } هنا هم يهود المدينة لأنهم هم الذين مالؤوا المشركين على المسلمين .

وعطف { الذين أشركوا } على { اليهود } جعلهم تبعاً لهم في ذلك إذ كان اليهود أشدّ في العداوة ، إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس ، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين ، ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله ، فهم أسرع للإيمان من كلّ أحد من اليهود والنصارى ، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } واللام في { لتجدن } هي الملتقى بها القسم المحذوف .

وقال ابن عطية : هي لام الابتداء ، وليس بمرضيّ ، و { الناس } هنا الكفار ، أي ولتجدن أشدّ الكفار عداوة .

{ ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } أي هم ألين عريكةً وأقرب ودًّا .

ولم يصفهم بالودّ إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين ، وهي أمّة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه ديناً وإيماناً ، ويبغضون أهل الفسق ، فإذا سالموا فسلمهم صافٍ ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة ، لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك ، وحين غلب الروم فارس سُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار ، ولإهلاك العدوّ الأكبر بالعدوّ الأصغر إذ كان مخوفاً على أهل الإسلام ، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى ، بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل } وفي قوله تعالى : { الذين قالوا إنا نصارى } إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية ، بل ذلك قول منهم وزعم ، وتعلق { للذين آمنوا } الأول بعداوة والثاني بمودة .

وقيل هما في موضع النعت ووصف العداوة بالأشد والمودّة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين ، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها ، وتلك المودة أقرب وأسهل ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ النصارى أصلح حالاً من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة ، وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه .

قال بعضهم : وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود ، وذلك ذم لهم ، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش ، ولهذا قال أبو بكر الرازي : من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خير من اليهود ، وليس كذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود ، لأن اليهود تقرّ بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه ؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى على الجملة أصلح حالاً من اليهود ، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام سريعاً ، وليس الكلام وارداً بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين ، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال : { ولتجدن أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن ، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود .

{ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه ، أي منهم علماء وعباد وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم زاهد ، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب والرهبة الخشية .

وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا :

لو عاينت رهبان دير في القلل *** تحدر الرهبان تمشي وتزل

ويروي ونزل ، والقسيس تقدم شرحه في المفردات .

وقال ابن زيد : هو رأس الرهبان .

وقيل : العالم .

وقيل : رافع الصوت بالقراءة .

وقيل : الصديق ، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم ، وأنه سبيل إلى الهداية ، وعلى حسن عاقبة الانقطاع ، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع ، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارىء