فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون 82 } .

{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم ، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيدا وتقريرا ، وقال ابن عطية : اللام للابتداء وليس بشيء ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز ، والمعنى أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك .

{ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } أي أن النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين وصفهم بلين العريكة وسهولة قبولهم الحق ، قيل مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان مثل القتل ونهب المال أو بأنواع المكر والكيد والحيل ، ومذهب النصارى خلاف اليهود فإن الإيذاء في مذهبهم حرام ، فحصل الفرق بينهما .

وقيل : إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا وطلب الرياسة ، ومن كان كذلك كان شديد العداوة للغير ، وفي النصارى من هو معرض عن الدنيا ولذاتها وترك طلب الرياسة ، ومن كان كذلك فإنه لا يحسد أحدا ولا يعاديه بل يكون لين العريكة في طلب الحق والأولى أولى .

وقال مجاهد : هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقلته وفي لفظ إلا حدث نفسه بقتله ) رواه أبو الشيخ قال ابن كثير وهو غريب جدا .

وعن عطاء قال : ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه ، وعنه قال : هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

{ ذلك } أي كونهم أقرب مودة { بأن } الباء للسببية { منهم قسيسين } جمع قس وقسيس قاله قطرب ، والقسيس العالم وأصله من قس إذا تتبع الشيء وطلبه وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها ، والقس النميمة والقس أيضا رئيس النصارى في الدين والعلم وجمعه قسوس أيضا ، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير ، ويقال في جمع قسيس تكسيرا قساوسة ، والأصل قساسة فالمراد بالقسيسن في الآية المتبعون للعلماء والعباد وهو إما عجمي خلطته العرب بكلامها أو عربي .

{ ورهبانا } جمع راهب كركبان وراكب والفعل رهب الله يرهبه أي خافه والرهبانية والترهب التعبد في الصوامع ، قال أبو عبيد : وقد يكون رهبان للواحد والجمع قال الفراء ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهابين كقربان وقرابين ، ثم وصفهم الله بعدم الاستكبار عن قول الحق فقال : { وأنهم لا يستكبرون } بل هم متواضعون بخلاف اليهود فإنهم على ضد ذلك .

وقيل : ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية فيمن آمن منهم مثل النجاشي وأصحابه ، والعموم أولى ، ولا وجه لتخصيص قوم دون قوم .

والآية الكريمة ساكتة على قيد الإيمان وإنما هو مدح في مقابلة ذم اليهود ، وليس بمدح على الإطلاق ، وقد تقدم الفرق بين وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة .

وفي الآية دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير ، وإن كان علم القسيسين ، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب ، وكذا البراءة من الكبر وإن كانت في نصراني .