مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

قوله تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى } .

اعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى ما ذكره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين ، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة ، بل نبه على أنهم أشد في العداوة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين . ولعمري أنهم كذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله » وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم .

وهاهنا مسألتان :

الأولى : قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي : المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين . وقال آخرون : مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان ، فإن قدروا على القتل فذاك ، وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة ، وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام ، فهذا هو وجه التفاوت :

المسألة الثانية : المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول صلى الله عليه وسلم ، واللام في قوله { لتجدن } لام القسم ، والتقدير : قسما إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عدواة مع المؤمنين ، وقد شرحت لك أن هذا التمرد والمعصية عادة قديمة لهم ، ففرغ خاطرك عنهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم .

ثم ذكر تعالى سبب هذا التفاوت فقال : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون }

وفي الآية مسألتان :

الأولى : علة هذا التفاوت أن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا والدليل عليه قوله تعالى : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } فقرنهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد ، والحرص معدن الأخلاق الذميمة لأن من كان حريصا على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر بطلب الدنيا ، فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال مالا أو جاها ، وأما النصارى فإنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبر والترفع ، وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم ولا يخاصمهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الانقياد له ، فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين في هذا الباب ، وهو المراد بقوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } .

وهاهنا دقيقة نافعة : في طلب الدين وهو أن كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوات ، واليهود لا ينازعون إلا في النبوات ، ولا شك في أن الأول أغلظ ، ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة شرفهم الله بقوله { ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا الذين قالوا إنا نصارى } وأما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى طردهم وخصهم الله بمزيد اللعن وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا ، وذلك ينبهك على صحة قوله صلى الله عليه وسلم : «حب الدنيا رأس كل خطيئة » .

المسألة الثانية : القس والقسيس اسم لرئيس النصارى ، والجمع القسيسون . وقال عروة بن الزبير : صنعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين ، وكان سمه قسيسا ، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس . قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم ، وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين ، وأما الرهبان فهو جمع راهب كركبان وراكب ، وفرسان وفارس ، وقال بعضهم : الرهبان واحد ، وجمعه رهابين كقربان وقرابين ، وأصله من الرهبة بمعنى المخافة .

فإن قيل : كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله { ورهبانية ابتدعوها } وقوله عليه الصلاة والسلام : «لا رهبانية في الإسلام » . قلنا : إن ذلك صار ممدوحا في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة ، ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحا على الإطلاق .