الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله » وفي لفظ : « إلا حدَّث نفسه بقتله » .

أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } قال : هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : ما ذكر الله به النصارى قال : هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين ، فذلك لهم .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ، وكتب معه كتاباً إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه ، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ عليهم سورة مريم ، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع ، وهم الذين أنزل فيهم { ولتجدن أقربهم مودة } إلى قوله { مع الشاهدين } .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } قال : هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخيِّر الخيِّر ، فالخير في الفقه والسن ، وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه ، فقرأ عليهم سورة يس ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، وعرفوا أنه الحق ، فأنزل الله فيهم { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً . . } الآية . ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } [ القصص : 52 ] إلى قوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } [ القصص : 54 ] .

وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال « ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في الذين أقبلوا مع جعفر من أرض الحبشة ، وكان جعفر لحق بالحبشة هو وأربعون معه من قريش ، وخمسون من الأشعريين ، منهم أربعة من عك ، أكبرهم أبو عامر الأشعري وأصغرهم عامر ، فذكر لنا أن قريشاً بعثوا في طلبهم عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد ، فأتوا النجاشي فقالوا : إن هؤلاء قد أفسدوا دين قومهم ، فأرسل إليهم فجاؤوا فسألهم ، فقالوا : بعث الله فينا نبياً كما بعث في الأمم قبلنا يدعوننا إلى الله وحده ، ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ، ويأمرنا بالصلة ، وينهانا عن القطيعة ، ويأمرنا بالوفاء ، وينهانا عن النكث ، وإن قومنا بغوا علينا ، وأخرجونا حين صدقناه وآمنا به ، فلم نجد أحد نلجأ إليه غيرك فقال : معروفاً . فقال عمرو وصاحبه : إنهم يقولون في عيسى غير الذي تقول . قال : وما تقولون في عيسى ؟ قالوا : نشهد أنه عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه ، ولدته عذراء بتول . قال : ما أخطأتم ، ثم قال لعمرو وصاحبه : لولا أنكما أقبلتما في جواري لفعلت بكما ، وذكر لنا أن جعفر وأصحابه إذ أقبلوا جاء أولئك معهم فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . قال قائل : لو قد رجعوا إلى أرضهم لحقوا بدينهم ، فحدثنا أنه قدم مع جعفر سبعون منهم ، فلما قرأ عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فاضت أعينهم » .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة ، فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ، ذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم . قال : إن جاؤوني نظرت فيما يقولون ، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا إلى باب النجاشي فقالوا : استأذن لأولياء الله ؟ فقال : ائذن لهم فمرحباً بأولياء الله ، فلما دخلوا عليه سلموا فقال الرهط من المشركين : ألم تر أيها الملك أنا صدقناك وأنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيى بها ؟ . . . فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة . فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قالوا : يقول عبد الله ورسوله ، وكلمة من الله ، وروح منه ألقاها إلى مريم ، ويقول في مريم : إنها العذراء الطيبة البتول . قال : فأخذ عوداً من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ، فكره المشركون قوله وتغير لون وجوههم ، فقال : هل تقرأون شيئاً مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم . قال : فاقرأوا وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى ، فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق . قال الله { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } " .

وأخرج الطبراني عن سلمان في إسلامه قال : " لما قدم النبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة صنعت طعاماً ، فجئت به فقال : ما هذا ؟ قلت : صدقة . فقال لأصحابه : كلوا ولم يأكل ، ثم إني رجعت حتى جمعت طعاماً فأتيته به فقال : ما هذا ؟ قلت : هدية . فأكل وقال لأصحابه : كلوا . قلت يا رسول الله ، أخبرني عن النصارى ؟ قال : لا خير فيهم ولا فيمن أحبهم ، فقمت وأنا مثقل ، فأنزل الله { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } حتى بلغ { تفيض من الدمع } فأرسل إلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا سلمان ، إن أصحابك هؤلاء الذين ذكر الله " .

وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { ولتجدن أقربهم مودة . . . } الآية . قال : أناس من أهل الكتاب ، كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى يؤمنون به وينتهون إليه ، فلما بعث الله محمداً صدقوه وآمنوا به وعرفوا ما جاء به من الحق أنه من الله ، فأثنى عليهم بما تسمعون .

وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن أبي شيبة في مسنده وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والحارث بن أبي أسامة في مسنده والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن الأنباري في المصاحف وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن سلمان " أنه سئل عن قوله { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } قال : الرهبان الذين في الصوامع ، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً } ولفظ البزار دع القسيسين ؛ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم { ذلك بأن منهم صديقين } ولفظ الحكيم الترمذي : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم { ذلك بأن منهم قسيسين } فأقرأني { ذلك بأن منهم صديقين } .

وأخرج البيهقي في الدلائل عن سلمان قال : كنت يتيماً من رامهرمز ، وكان ابن دهقان رامهرمز يختلف إلى معلم يعلمه ، فلزمته لأكون في كنفه وكان لي أخ أكبر مني ، وكان مستغنياً في نفسه ، وكنت غلاماً فقيراً ، فكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه ، فإذا تفرقوا خرج ، فتقنع بثوبه ثم صعد الجبل ، فكان يفعل ذلك غير مرة متنكراً قال : فقلت أما أنك تفعل كذا وكذا ، فلم لا تذهب بي معك ؟ قال : أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء . قال : قلت لا تخف . قال : فإن في هذا الجبل قوماً في برطيل لهم عبادة وصلاح ، يذكرون الله عز وجل ويذكرون الآخرة ، يزعمون أنا عبدة النيران وعبدة الأوثان ، وأنا على غير دين . قلت : فاذهب بي معك إليهم . قال : لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم ، وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتل القوم فيجري هلاكهم على يدي . قال : قلت لن يظهر مني ذلك ، فاستأمرهم فقال : غلام عندي يتيم فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم ، قالوا : إن كنت تثق به . قال : أرجو أن لا يجيء منه إلا ما أحب .

قالوا : فجيء به . فقال لي : قد استأذنت القوم أن تجيء معي ، فإذا كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها فأتني ولا يعلم بك أحد ، فإن أبي إن علم قتلهم . قال : فلما كانت الساعة التي يخرج تبعته ، فصعد الجبل فانتهينا إليهم فإذا هم في برطيلهم . قال : علي . وأراه قال : هم ستة أو سبعة . قال : وكانت الروح قد خرجت منهم من العبادة ، يصومون النهار ويقومون الليل ، يأكلون الشجر وما وجدوا ، فقعدنا إليهم فأثنى ابن الدهقان عليَّ خيراً ، فتكلموا فحمدوا الله وأثنوا عليه ، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم ، قالوا : بعثه الله وولده بغير ذكر ، بعثه الله رسوله ، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى ، وخلق الطير ، وابراء الأعمى والأبرص ، فكفر به قوم وتبعه قوم . وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه . قال : وقالوا قبل ذلك : يا غلام ، إن لك رباً ، وإن لك معاداً ، وإن بين يديك جنة وناراً إليها تصير ، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دين ، فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام انصرف وانصرفت معه ، ثم غدونا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن ، فلزمتهم فقالوا : يا غلام ، إنك غلام ، وإنك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع ، فكل واشرب وصل ونم .

قال : فاطلع الملك على صنيع ابنه ، فركب الخيل حتى أتاهم في برطيلهم ، فقال : يا هؤلاء ، قد جاورتموني فأحسنت جواركم ولم تروا مني سوءاً ، فعمدتم إلى ابني فأفسدتموه عليَّ ، قد أجلتكم ثلاثاً ، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا فالحقوا ببلادكم ، فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء .

قالوا : نعم ، ما تعمدنا إساءتك ، ولا أردنا إلا الخير ، فكفَّ ابنه عن إتيانهم فقلت له : اتق الله ، فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله ، وأن أباك ونحن على غير دين ، إنما هم عبدة النيران لا يعرفون الله ، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك . قال : يا سلمان ، هو كما تقول ، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم إن اتبعت القوم يطلبني أبي في الخيل ، وقد جزع من إتياني إياهم حتى طردهم ، وقد أعرف أن الحق في أيديهم . قلت : أنت أعلم ، ثم لقيت أخي فعرضت عليه فقال : أنا مشتغل بنفسي وطلب المعيشة ، فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه فقالوا : يا سلمان ، قد كنا نحذر ، فكان ما رأيت ، اتق الله واعلم أن الدين ما أوصيناك به ، وإن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله ولا يذكرونه ، فلا يخدعنَّك أحد عن ذلك . قلت : ما أنا بمفارقكم .

قالوا : إنك لا تقدر على أن تكون معنا ، نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل الشجر وما أصبنا ، وأنت لا تستطيع ذلك . قال : قلت : لا أفارقكم . قالوا : أنت أعلم قد أعلمناك حالنا فإذا أبيت فاطلب أحداً يكون معك ، واحمل معك شيئاً تأكله لا تستطيع ما نستطيع نحن . قال : ففعلت ، فلقيت أخي فعرضت عليه فأبى ، فأتيتهم فتحمَّلوا فكانوا يمشون وأمشي معهم ، فرزقنا الله السلامة حتى أتينا الموصل ، فأتينا بيعه بالموصل ، فلما دخلوا حفوا بهم وقالوا : أين كنتم ؟ قالوا : كنا في بلاد لا يذكرون الله ، بها عبّاد نيران فطردونا فقدمنا عليكم ، فلما كان بعد قالوا : يا سلمان ، إن ههنا قوماً في هذه الجبال هم أهل دين وإنا نريد لقاءهم ، فكن أنت ههنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين ، وسترى منهم ما تحب ، قلت : ما أنا بمفارقكم . قال : وأوصوا بي أهل البيعة فقال أهل دين البيعة : أقم معنا فإنه لا يعجزك شيء يسعنا . قلت : ما أنا بمفارقكم .

فخرجوا وأنا معهم ، فأصبحنا بين جبال ، فإذا صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير ، فقعدنا عند الصخرة ، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال ، يخرج رجل رجل من مكانه كأن الأرواح انتزعت منهم حتى كثروا ، فرحبوا بهم وحفوا وقالوا : أين كنتم لم نركم ؟ قالوا : كنا في بلاد لا يذكرون اسم الله فيها عبدة النيران ، وكنا نعبد الله فيها فطردونا ، فقالوا : ما هذا الغلام ؟ قال : فطفقوا يثنون عليَّ ، وقالوا : صحبنا من تلك البلاد فلم نرَ منه إلا خيراً . قال : فوالله إنهم لكذا إذ طلع عليهم رجل من كهف رجل طويل ، فجاء حتى سلم وجلس ، فحف به أصحابي الذين كنت معهم وعظموه ، وأحدقوا به فقال لهم : أين كنتم ؟ فأخبروه فقال : وما هذا الغلام معكم ؟ فأثنوا عليَّ خيراً ، وأخبروه باتباعي إياهم ، ولم أرَ مثل إعظامهم إياه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر من أرسل من رسله وأنبيائه ، وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر مولد عيسى بن مريم ، وأنه ولد بغير ذكر ، فبعثه الله رسولاً ، وأجرى على يديه إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأبرص ، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، وأنزل عليه الإنجيل وعلمه التوراة ، وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل ، فكفر به قوم وآمن به قوم ، وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم ، وأنه كان عبداً أنعم الله عليه ، فشكر ذلك له ورضي عنه حتى قبضه الله ، وهو يعظمهم ويقول : اتقوا الله والزموا ما جاء عيسى به ، ولا تخالفوا فيخالف بكم ، ثم قال : من أراد أن يأخذ من هذا شيئاً فليأخذ .

فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء ، وقام إليه أصحابي الذين جئت معهم فسلموا عليه وعظموه ، فقال لهم : الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا واستوصوا بهذا الغلام خيراً ، وقال لي : يا غلام ، هذا دين الله الذي ليس له دين فوقه وما سواه هو الكفر .

قال : قلت : ما أفارقك . قال : إنك لن تستطيع أن تكون معي ، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد ، لا تقدر على الكينونة معي . قال : وأقبل على أصحابه فقالوا : يا غلام ، إنك لا تستطيع أن تكون معه . قلت : ما أنا بمفارقك . قال : يا غلام ، فإني أعلمك الآن ، إني أدخل هذا الكهف ولا أخرج منه إلى الأحد الآخر ، وأنت أعلم . قلت : ما أنا بمفارقك . قال له أصحابه : يا فلان ، هذا غلام ونخاف عليه . قال : قال لي : أنت أعلم . قلت : إني لا أفارقك . فبكى أصحابي الأوّلون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي . فقال : خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر ، وخذ من هذا الماء ما تكتفي به ففعلت ، وتفرقوا وذهب كل إنسان إلى مكانه الذي يكون فيه ، وتبعته حتى دخل الكهف في الجبل فقال : ضع ما معك وكل واشرب ، وقام يصلي ، فقمت معه أصلي قال : وانفتل إلي فقال : إنك لا تستطيع هذا ، ولكن صل ونم ، وكل واشرب ، ففعلت فما رأيته لا نائماً ولا طاعماً إلا راكعاً وساجداً إلى الأحد الآخر .

فلما أصبحنا قال : خذ جرتك هذه وانطلق ، فخرجت معه أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة ، وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال ، واجتمعوا إلى الصخرة ينتظرون خروجه ، فقعدوا وجاد في حديثه نحو المرة الأولى . فقال : الزموا هذا الدين ولا تفرقوا ، واتقوا الله واعلموا أن عيسى ابن مريم كان عبد الله أنعم الله عليه ، ثم ذكروني فقالوا : يا فلان ، كيف وجدت هذا الغلام ؟ فأثنى علي وقال : خيراً .

فحمدوا الله ، فإذا خبز كثير وماء ، فأخذوا وجعل الرجل يأخذ بقدر ما يكتفي به ففعلت ، وتفرقوا في تلك الجبال ورجع إلى كهفه ورجعت معه .

فلبث ما شاء الله ، يخرج في كل يوم أحد ويخرجون معه ، ويوصيهم بما كان يوصيهم به ، فخرج في أحد ، فلما اجتمعوا حمد الله ووعظهم وقال مثل ما كان يقول لهم ، ثم قال لهم آخر ذلك : يا هؤلاء ، إني قد كبرت سني ، ورق عظمي ، واقترب أجلي ، وأنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا ، ولا بد لي من إتيانه ، فاستوصوا بهذا الغلام خيراً ، وإني رأيته لا بأس به ، قال : فجزع القوم فما رأيت مثل جزعهم ، وقالوا : يا أبا فلان ، أنت كبير وأنت وحدك ، ولا نأمن أن يصيبك الشيء ولسنا أحوج ما كنا إليك . قال : لا تراجعوني لا بد لي من إتيانه ولكن استوصوا بهذا الغلام خيراً وافعلوا وافعلوا . قال : قلت : ما أنا بمفارقك . قال : يا سلمان ، قد رأيت حالي وما كنت عليه وليس هذا لك ، إنما أمشي أصوم النهار وأقوم الليل ، ولا أستطيع أن أحمل معي زاداً ولا غيره ولا تقدر على هذا . قال : قلت : ما أنا بمفارقك . قال : أنت أعلم قالوا : يا أبا فلان ، إنا نخاف عليك وعلى هذا الغلام . قال : هو أعلم قد أعلمته الحالة ، وقد رأى ما كان قبل هذا . قلت : لا أفارقك . فبكوا وودعوه وقال لهم : اتقوا الله وكونوا على ما أوصيتكم به ، فإن أعش فلعلي أرجع إليكم ، وإن أمت فإن الله حي لا يموت ، فسلم عليهم وخرج وخرجت معه ، وقال لي : احمل معك من هذا الخبز شيئاً تأكله .

فخرج وخرجت معه يمشي واتبعه ، يذكر الله ، ولا يلتفت ولا يقف على شيء حتى إذ أمسى قال : يا سلمان صل أنت ونم ، وكل واشرب ، ثم قام هو يصلي إلى أن انتهى إلى بيت المقدس ، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، وإذا على الباب مقعد قال : يا عبد الله ، قد ترى حالي فتصدق عليَّ بشيء ، فلم يلتفت إليه ودخل المسجد ودخلت معه ، فجعل يتتبع أمكنة من المسجد يصلي فيها ، ثم قال : يا سلمان ، إني لم أنم منذ كذا وكذا ولم أجد طعم نوم ، فإن أنت جعلت لي أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت ، فاني أحب أن أنام في هذا المسجد وإلا لم أنم . قال : قلت : فإني أفعل . قال : فانظر إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني إذا غلبتني عيني ، فنام فقلت في نفسي : هذا لم ينم منذ كذا وكذا وقد رأيت بعض ذلك ، لأدعنه ينام حتى يشتفي من النوم .

وكان فيما يمشي وأنا معه يقبل عليَّ فيعظني ، ويخبرني أن لي رباً وأن بين يديه جنة وناراً وحساباً ، ويعلمني بذلك ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد حتى قال فيما يقول لي : يا سلمان ، الله تعالى سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد يخرج بتهامة - وكان رجلاً أعجمياً لا يحسن أن يقول تهامة ولا محمد - علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم ، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب ، فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه ، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه .

قلت : وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ؟ قال : وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به ، ورضا الرحمن فيما قال .

فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعاً يذكر الله تعالى فقال : يا سلمان ، مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر الله ، أين ما جعلت لي على نفسك ؟ قال : قلت : أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا ، وقد رأيت بعض ذلك فأحببت أن تشتفي من النوم فحمد الله ، فقام وخرج فتبعته فقال المقعد : يا عبد الله ، دخلت فسألتك فلم تعطني ، وخرجت فسألتك فلم تعطني ، فقام ينظر هل يرى أحداً فلم يره ، فدنا منه فقال : ناولني يدك ، فناوله فقال : قم بسم الله ، فقام كأنه نشط من عقال صحيحاً لا عيب فيه ، فخلى عن يده ، فانطلق ذاهباً فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه ، فقال لي المقعد : يا غلام ، أحمل على ثيابي حتى أنطلق وأبشر أهلي ، فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي عليَّ .

فخرجت في أثره أطلبه ، وكلما سألت عنه قالوا : أمامك . حتى لقيني الركب من كلب فسألتهم ، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني ، فجعلني خلفه حتى بلغوا بي بلادهم قال : فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخبرت به ، فأخذت شيئاً من تمر حائطي فجعلته على شيء ، ثم أتيته فوجدت عنده أناساً ، وإذا أبو بكر أقرب القوم منه ، فوضعته بين يديه فقال : ما هذا ؟ قلت صدقة . فقال للقوم : كلوا ولم يأكل هو ، ثم لبثت ما شاء الله ، ثم أخذت مثل ذلك فجعلته على شيء ، ثم أتيته به فوجدت عنده أناساً ، وإذا أبو بكر أقرب القوم منه ، فوضعته بين يديه فقال : ما هذا ؟ قلت : هدية . قال : بسم الله ، فأكل وأكل القوم ، قال : قلت : في نفسي هذه من آياته ، كان صاحبي رجلاً أعجمياً لم يحسن أن يقول تهامة قال تهمة ، وقال أحمد فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر ، فتبينته ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .

قال : من أنت ؟ قلت : مملوك ، فحدثته بحديثي وحديث الرجل الذي كنت معه وما أمرني به ، قال : لمن أنت ؟ قلت : لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها .

قال : يا أبا بكر ، قال : لبيك . . . قال : اشتره . قال : فاشتراني أبو بكر فاعتقني ، فلبثت ما شاء الله أن ألبث ، ثم أتيته فسلمت عليه وقعدت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في دين النصارى ؟ قال : لا خير فيهم ولا في دينهم ، فدخلني أمر عظيم فقلت في نفسي : هذا الذي كنت معه ورأيت منه ما رأيت ، أخذ بيد المقعد فأقامه الله على يديه ، لا خير في هؤلاء ولا في دينهم ، فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله ، فأنزل الله بعد على النبي صلى الله عليه وسلم { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } إلى آخر الآية .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ بسلمان ، فأتاني الرسول فدعاني وأنا خائف ، فجئت حتى قعدت بين يديه ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } إلى آخر الآية . فقال : يا سلمان ، أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى إنما كانوا مسلمين ، فقلت : يا رسول الله ، فوالذي بعثك بالحق لقد أمرني باتباعك . فقلت له : وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ، فأتركه ؟ قال : نعم ، فاتركه فإن الحق وما يحب الله فيما يأمرك .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { قسيسين } قال : علماؤهم .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : القسيسون . عبادهم .

وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال : سألت الزهري عن هذه الآية { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } وقوله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] قال : ما زلت أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشي وأصحابه .