قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } الآية . قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يحيى بن بكير ، أنبأنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قال : وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ، فخدمته عشر سنين ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت حتى جاء حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر ، وأنزل الحجاب . وقال أبو عثمان واسمه الجعد عن أنس قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة ، وهو يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلى قوله : { والله لا يستحيي من الحق } . وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم ، فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } يقول : إلا أن تدعوا ، { إلى طعام } فيؤذن لكم فتأكلونه ، { غير ناظرين إناه } غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه ، يقال : أنى الحميم : إذا انتهى حره ، وإني أن يفعل ذلك : إذا حان ، إنى بكسر الهمزة مقصورة ، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء ، وفيه لغتان إني يأني ، وآن يئين ، مثل : حان يحين . { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم } أكلتم الطعام ، { فانتشروا } تفرقوا واخرجوا من منزله ، { ولا مستأنسين لحديث } ولا طالبين الأنس للحديث ، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فنهواً عن ذلك . { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق } أي : لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياءً . { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } أي : من وراء ستر ، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم متنقبة كانت أو غير متنقبة ، { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الريب . وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يحيى بن بكير ، أنبأنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : " أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب فأنزل الحجاب " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنبأنا عبد الرحيم بن منيب ، أنبأنا يزيد بن هارون ، أنبأنا حميد ، عن أنس قال : قال عمر : " وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت : يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني بعض ما آذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه ، قال : فدخلت عليهن فجعلت استقريهن واحدة واحدة ، قلت : والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجاً خيراً منكن ، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر ما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، قال : فخرجت فأنزل الله عز وجل : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } إلى آخر الآية . قوله عز وجل : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء ، { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحن عائشة . قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله ، فأخبره الله عز وجل أن ذلك محرم ، وقال : { إن ذلكم كان عند الله عظيماً } أي : ذنباً عظيماً . وروى معمر عن الزهري ، أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له ، وذلك قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس .
{ لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } سبب هذه الآية ما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا قعد نفر في طائفة من البيت فثقل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فخرج ليخرجوا بخروجه ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم ، فانصرف فخرجوا عن ذلك ، وقال ابن عباس : نزلت في قوم كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام فيقعدون إلى أن يطبخ ثم يأكلون ولا يخرجون ، فأمروا أن لا يدخلوا حتى يؤذن لهم ، وأن ينصرفوا إذا أكلوا ، قلت : والقول الأول أشهر ، وقول ابن عباس أليق بما في الآية من النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم ، فعلى قول ابن عباس في النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم ، والقول الأول في النهي عن القعود بعد الأكل ، فإن الآية تضمنت الحكمين .
{ غير ناظرين إناه } أي : غير منتظرين لوقت الطعام ، والإنا الوقت ، وقيل : إنا الطعام نضجه وإدراكه ، يقال : أنى يأنى إناء .
{ ولكن إذا دعيتم فادخلوا } أمر بالدخول بعد الدعوة ، وفي ذلك تأكيد للنهي عن الدخول قبلها .
{ فإذا طعمتم فانتشروا } أي : انصرفوا ، قال بعضهم : هذا أدب أدّب الله به الثقلاء ، وقالت عائشة رضي الله عنها : " حسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم " .
{ ولا مستأنسين لحديث } معطوف على غير ناظرين ، أو تقديره ولا تدخلوا مستأنسين ، ومعناه النهي عن أن يطلبوا الجلوس للأنس بحديث بعضهم مع بعض ، أو يستأنسوا لحديث أهل البيت ، واستئناسهم : تسمعهم وتجسسهم .
{ إن ذلكم كان يؤذي النبي } : يعني جلوسهم للحديث أو دخولهم بغير إذن .
{ فيستحيي منكم } تقديره يستحي من إخراجكم ، بدليل قوله : { والله لا يستحي من الحق } أي : إن إخراجكم حق لا يتركه الله .
{ وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } المتاع الحاجة من الأثاث وغيره ، وهذه الآية نزلت في احتجاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وسببها ما رواه أنس من قعود القوم يوم الوليمة في بيت زينب ، وقيل : سببها أن عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحجب نساءه فنزلت الآية موافقة لقول عمر ، قال بعضهم : لما نزلت في أمهات المؤمنين { إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } كن لا يجوز للنساء كلامهن إلا من وراء حجاب ، ولا يجوز أن يراهن متنقبات ولا غير متنقبات ، فخصصن بذلك دون سائر النساء .
{ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يريد أنقى من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء والنساء في أمر الرجال .
{ ولا تنكحوا أزواجه } سببها أن بعض الناس قالوا لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فحرم الله على الناس تزوج نسائه بعده كرامة له صلى الله عليه وسلم .