{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } شروع في بيان ما تجب رعايته على الناس من حقوق نساء النبي إثر بيان ما تجب مراعاته عليه من حقوقهن { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن منه . وسبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب .
قد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : ( يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب ) ، وفي لفظ أنه قال عمر : ( يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ) ، فأنزل الله آية الحجاب .
وأخرج البخار ومسلم وغيرهما عن أنس قال : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام ، فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام ، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية .
وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشيا ، وكانت امرأة طويلة ، فنادها عمر بصوت أعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله الحجاب قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية وأخرج بن سعد عن أنس قال نزل الحجاب مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، وذلك سنة خمس من الهجرة ، وحجب نساءه من يومئذ ، وأنا ابن الخمس عشرة سنة ، وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان ، وقال : نزل الحجاب على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة . وبه قال قتادة والواقدي ، وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث .
وفي الآية دليل على أن البيت للرجل ويحكم له به فإن الله أضافه إليه إضافة ملك ، وأما إضافته إلى الأزواج في قوله ( ما يتلى في بيوتكن ) فهي إضافة محل بدليل أنه جعل فيها الإذن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والإذن إنما يكون من المالك ، واختلف العلماء في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يسكن فيها نساؤه بعد موته هل هي ملك لهن أولا ؟ على قولين ، فقالت طائفة : كانت ملكا لهن بدليل أنهن سكن فيها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهن ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب لهن ذلك في حياته ، الثاني : أن ذلك كان إسكانا كما يسكن الرجل أهله ، ولم يكن هبة وأمتدت سكناهن بها إلى الموت ، وهذا هو الصحيح ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربي ، وغيرهما . فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهن كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال [ لا تقسم ورثني دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤمنة عاملي فهو صدقه ] هكذا قال أهل العلم ، قالوا : ويدل على ذلك أن مساكنهن لم ترثها عنهن ورثتهن . قالوا : وفي ترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن لهن ملكا وإنما كان لهن سكنى حياتهن . فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الحرام الذي يعم المسلمين نفعه ، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين إلى سبيلهن فزيد إلى أصل المال فصرف لمنافع المسلمين مما يعم نفعه الجميع والله الموفق كذا قاله القرطبي .
وأعلم أن قالوا همز النبي حيث وقع إلا في موضعين من هذه السورة أحدهما هذه الآية والثاني قوله : { إن وهبت نفسها للنبي } فأبدلها ياء في الوصل وهمزها في الوقف كما ذكره الشاطبي ، ولم يسهلها كما سهل غيرها لأنه رأى الإبدال هنا جاريا على القياس فيه فرجحه لموافقته لغيره ولأنه أفصح من التسهيل ولذلك أنكر على من قاله يا نبئ الله بالهمزة وهذا مما لا غبار عليه فلله در التنزيل ، وما فيه من دقائق التأويل .
{ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا في حال كونكم مأذونا لكم ، أي إلا مصحوبين بالإذن أو إلا بأن يؤذن لكم أو إلى وقت أن يؤذن لكم في قوله : { إِلَى طَعَامٍ } متعلق بيؤذن على تضمنه معنى الدعاء أي إلا أن يؤذن لكم مدعوين إلى طعام .
{ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } انتصاب غير على الحال ، والعامل فيه يؤذي ، أو مقدر . أي : ادخلوا غير ناظرين ، ومعنى ناظرين منتظرين ، وإناه نضجه وإدراكه ، يقال : أنى يأنى إنا إذا حان وأدرك .
قال الرازي : في الآية إما أن يكون فيه تقديم وتأخير وتقديره : ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن ، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه : ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطا بكونه إلى طعام ، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول ، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز . فنقول : المراد الثاني ليعم النهي عن الدخول ، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى الطعام فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ، ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن وقال ابن عادل الأولى أن يقال المراد هو الثاني ، لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل ، وقوله : إلى طعام من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فان من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام انتهى الأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال قد دلت الأدلة على جواز دخوله بيوته ( صلى الله عليه وسلم ) بإذنه لغير الطعام ، وذلك معلوم لا شك فيه فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم ، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذي نزل فيه ، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم ، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك ، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام ، واللازم باطل فالملزوم مثله .
قال ابن عطية : وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل ، لا قبله لانتظار نضج الطعام ، ثم بين سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال :
{ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ } وأذن لكم فادخلوا ، وفيه تأكيد بليغ للمنع ، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول ، وهو عند الإذن ، وقال ابن العربي : وتقدير الكلام ولكن إذا دعيتم وأذن لكم .
{ فَادْخُلُوا } وإلا فنفس الدعوة لا يكون إذنا كافيا في الدخول ، وقيل إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه ، قال الرازي : فيه لطيفة وهي أنه في العادة إذا قيل لمن يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن ، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلا ، ولا بالدعاء ، فقال : لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون ، بل كونوا طائعين إذا قيل لكم لا تدخلوا فلا تدخلوا ، وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا وقوله : إلا أن يؤذن لكم يفيد الجواز ، وقوله : ولكن إذا دعيتم فادخلوا يفيد الوجوب ، فليس تأكيدا بل هو مفيد فائدة جديدة .
{ فَإِذَا طَعِمْتُمْ } أي أكلتم الطعام يقال : طعم بكسر العين يطعم بفتحها طعما كفهم ، وطعما كقفل ، وفي الخطيب إذا أكلتم طعاما أو شربتم شرابا { فَانتَشِرُوا } أي اذهبوا حيث شئتم في الحال ، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل ، ولا تدخلوا هاجمين .
{ وَلا } تمكثوا { مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدث به ، يقال : أنست به أنسا من باب علم ، وفي لغة من باب ضرب ، والأنس بالضم اسم منه واستأنست به وتأنست به إذا سكن القلب ولم ينفر { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي الانتظار أو المكث والاستئناس للحديث وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله تعالى : { عون بين ذلك } ، أي إن ذلك المذكور من الأمرين .
{ كَانَ } في علم الله { يُؤْذِي النَّبِيَّ } لأنهم كانوا يضيقون عليه المنزل وعلى أهله ، ويتحدثون بما لا يريده ، قال الزجاج : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل إطالتهم كرما منه فيصبر على الأذى في ذلك فعلم الله من يحضره الأدب فصار أدبا لهم ولمن بعدهم .
{ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } أي يستحي أن يقول لكم : قوموا أو أخرجوا { وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة .
قرأ الجمهور : يستحيي بيائين وروى عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة ، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي وهذا أدب أدب الله به الثقلاء وعن عائشة قالت : حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم ، وقال : إذا طعمتم فانتشروا ؛ ثم ذكر سبحانه أدبا آخر متعلقا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } أي أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) { مَتَاعًا } أي شيئا يتمتع به من الماعون وغيره والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف .
{ فَاسْأَلُوهُنَّ } المتاع { مِن وَرَاء حِجَابٍ } أي من وراء ستر بينكم وبينهن فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، متنقبة كانت أو غير متنقبة .
{ ذَلِكُمْ } أي سؤال المتاع من وراء الحجاب ، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع ، والأول أولى ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره قوله :
{ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي أكثر تطهير لها من الريبة وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء ، وللنساء في أمر الرجال وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له ، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه فإن مجانبة ذلك أحسن بحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته .
{ وَمَا كَانَ } أي ما صح ولا استقام { لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ } بشيء من الأشياء كائنا ما كان ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه ، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده ، وتكليم نسائه من دون حجاب .
{ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا } أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته أو فراقه لأنهن أمهات المؤمنين ، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات قال ابن عباس في الآية : نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد موته . قال سفيان : وذكروا أنها عائشة .
وعن السدي قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ؟ ويتزوج نساءنا من بعدنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده ، فنزلت هذه الآية . وعن قتادة قال : قال طلحة بن عبيد الله : لو قبض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لتزوجت عائشة ، فنزلت . وعن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم قال : نزلت في طلحة لأنه قال إذا توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تزوجت عائشة . قال ابن عطية : وهذا عندي لا يصح على طلحة .
قال القرطبي : قال شيخنا الإمام أبو العباس وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله ، وإنما الكذب في نقله ، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال .
وعن ابن عباس قال : قال رجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو قد مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تزوجت عائشة وأم سلمة فأنزل الله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ } الآية وعنه أن زجلا أتى بعض أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : [ لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا ] فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ، ولا قالت لي . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : [ قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله وأنه ليس أحد أغير مني ] فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجنها من بعده . فأنزل الله هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا توبة من كلمته .
وعن أسماء بنت عميس قال : خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إن أسماء متزوجة عليا فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله ، والذي جرى عليه الرملي في شرح المنهاج أن من عقد عليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تحرم على غيره سواء دخل بها صلى الله عليه وسلم أولا ، وأما حكم إمائه فمن دخل بها منهن حرمت على غيره وإلا فلا .
{ إِنَّ ذَلِكُمْ } أي نكاح أزواجه من بعده { كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا } أي ذنبا عظيما ، وخطبا هائلا شديدا وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه ، وسر قلبه ، واستفرغ شكره فإن من الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت قبله لئلا تنكح بعده .