فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

قوله : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ بإذن منه . سبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب ، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث إن شاء الله . وقوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلاّ في حال كونكم مأذوناً لكم ، وهو في موضع نصب على الحال ، أي إلاّ مصحوبين بالإذن ، أو بنزع الخافض ، أي إلاّ بأن يؤذن لكم ، أو منصوب على الظرفية ، أي إلاّ وقت أن يؤذن لكم ، وقوله : { إلى طَعَامٍ } متعلق ب{ يؤذن } على تضمينه معنى الدعاء ، أي ادخلوا غير ناظرين ومعنى ناظرين : منتظرين ، و{ إناه } نضجه وإدراكه ، يقال : أنى يأني أنى : إذا حان وأدرك . قرأ الجمهور { غير ناظرين } بالنصب . وقرأ ابن أبي عبلة : " غير " بالجرّ صفة لطعام ، وضعف النحاة هذه القراءة لعدم بروز الضمير لكونه جارياً على غير من هو له ، فكان حقه أن يقال : { غَيْرَ ناظرين } إناه أنتم .

ثم بيّن لهم سبحانه ما ينبغي في ذلك ، فقال : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا } وفيه تأكيد للمنع ، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول ، وهو عند الإذن . قال ابن العربي : وتقدير الكلام : ولكن إذا دعيتم وأذن لكم فادخلوا ، وإلاّ فنفس الدعوة لا تكون إذناً كافياً في الدخول . وقيل : إن فيه دلالة بينة على أن المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام ، وهو التفرّق ، والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } عطف على قوله : { غير ناظرين } ، أو على مقدّر ، أيّ ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين . والمعنى : النهي لهم عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدّثون مستأنسين بالحديث . قال الرازي في قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره : ولا تدخلوا إلى طعام إلاّ أن يؤذن لكم ، فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير إذن . وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير ، فيكون معناه : ولا تدخلوا إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام ، فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام ، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول ، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام فلا يجوز ، فنقول : المراد هو الثاني ليعمّ النهي عن الدخول .

وأما كونه لا يجوز إلاّ بإذن إلى طعام فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ، ويدخلون من غير إذن ، فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن . وقال ابن عادل : الأولى أن يقال : المراد هو : الثاني ؛ لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل ، وقوله : { إلى طَعَامٍ } من باب التخصيص بالذكر ، فلا يدلّ على نفي ما عداه ، لا سيما إذا علم مثله ، فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام ، انتهى . والأولى في التعبير عن هذا المعنى الذي أراده أن يقال : قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته صلى الله عليه وسلم بإذنه لغير الطعام وذلك معلوم لا شك فيه ، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام ، فيأذن لهم ، وذلك يوجب قصر هذه الآية على السبب الذي نزلت فيه ، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم ، فلا تدلّ على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك ، وإلاّ لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام ، واللازم باطل فالملزوم مثله . قال ابن عطية : وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك ، فمنعهم من الدخول إلاّ بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام .

والإشارة بقوله : { إِنَّ ذلكم } إلى الانتظار والاستئناس للحديث ، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] أي إن ذلك المذكور من الأمرين { كَانَ يُؤْذِي النبي } لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه وعلى أهله ويتحدّثون بما لا يريده . قال الزجاج : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحتمل إطالتهم كرماً منه ، فيصبر على الأذى في ذلك ، فعلم الله من يحضره الأدب صار أدباً لهم ولمن بعدهم { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } أي يستحيي أن يقول لكم : قوموا أو أخرجوا { والله لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الحق } أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره ، والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة . قرأ الجمهور { يستحيي } بياءين ، وروي عن ابن كثير : أنه قرأ بياء واحدة ، وهي لغة تميم يقولون : استحى يستحي مثل استقى يستقي . ثم ذكر سبحانه أدباً آخر متعلقاً بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا } أي شيئاً يتمتع به ، من الماعون وغيره { فاسألوهن مِن وَرَاءِ حِجَاب } أي من وراء ستر بينكم وبينهنّ . والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به ، فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف .

والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى سؤال المتاع من وراء حجاب ، وقيل : الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن ، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع ، والأوّل أولى ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره { أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي أكثر تطهيراً لها من الريبة ، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء ، وللنساء في أمر الرجال . وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحلّ له ، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } أي ما صح لكم ولا استقام أن تؤذوه بشيء من الأشياء كائناً ما كان ، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه ، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده ، وتكليم نسائه من دون حجاب { وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته ؛ لأنهنّ أمهات المؤمنين ، ولا يحلّ للأولاد نكاح الأمهات ، والإشارة بقوله : { إِنَّ ذلكم } إلى نكاح أزواجه من بعده { كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } أي ذنباً عظيماً وخطباً هائلاً شديداً .

وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل : لو قد مات محمد لتزوّجنا نساءه ، وسيأتي بيان ذلك .

/خ55