الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

قوله تعالى ذكره : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي }53 إلى قوله : { وسلموا تسليما }56 .

المعنى : أن الله جل ذكره أمر أصحاب النبي عليه السلام ألا يدخلوا عليه إلا أن يأذن لهم إلى طعام لم يكونوا منتظرين وقته وإدراكه .

وإناه مصدر أنى يأتي إنا وإنيا وأنا ممدود ، وفيه لغة أخرى ، يقال : أن يئين أنيا ، ويقال في معناه : نال لك وأنال لك . ومعنى آن : حان{[55661]} . " وغير " منصوب على الحال من الكاف والميم في " لكم " ولا يحسن خفضه على النعت لطعام لأنه لا يلزم منه إظهار الضمير ، فتقول : غير ناظرين أنتم إناه ، لأن اسم الفاعل إذا جرى صفة على غير من هو له ، أو خبرا لم يكن بد من إظهار الضمير الذي فيه{[55662]} ، والمعنى غير منتظرين حينه ونضجه .

ثم قال : { ولكن إذا دعيتم فادخلوا } أي : إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته لطعام فادخلوا .

{ فإذا طعمتم فانتشروا } أي : فتفرقوا إذا أكلتم من بيته .

{ ولا مستانسين لحديث } أي : لا متحدثين بعد فراغكم من أكلكم .

وكان نزول هذه الآية في قول أكلوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب بنت جحش ، ثم جلسوا يتحدثون في مجلس رسول الله ، ولرسول الله إلى أهله حاجة ، فمنعه الحياء أن يأمرهم بالخروج من منزله{[55663]} .

روى معنى ذلك أنس بن مالك ، قال أنس : وكان قد أولم رسول الله بتمر وسويق{[55664]} .

وكان أنس ذلك اليوم ابن عشر سنين{[55665]} .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب ، فقالت زينب : يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله جل ذكره : { وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب }{[55666]} .

وهذا أدب لأصحاب النبي صلى عليه السلام ولمن بعدهم .

وقال قتادة : كان هذا في بيت أم سلمة أكلوا وأطالوا الحديث ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج ، ويستحي منهم والله لا يستحي من الحق{[55667]} .

ثم قال : { إن ذلك كان يؤذي النبي } أي : دخولكم في بيت النبي من غير أن يؤذن لكم ، وجلوسكم فيها مستأنسين لحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له كان يؤذي النبي فيستحي منكم أن يخرجكم منها ، وأن يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهته لذلك منكم . { والله لا يستحي من الحق } أن يبينه لكم .

ثم قال : { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب } أي : وإذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاما أو غيره فخاطبوهن من وراء حجاب ، أي : من وراء ستر/ ولا تدخلوا عليهن بيوتهن .

ثم قال جل ذكره : { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } أي : مخاطبتكم لهن من وراء حجاب أطهر لقلوبكم ، وقلوبهن من عوارض الفتن . وذكر مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة فكره ذلك النبي فنزلت آية الحجاب{[55668]} .

وروى أنس أن عمر قال : " قلت لرسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، قال فنزلت آية الحجاب{[55669]} وروي : " أن سودة خرجت ليلا للبراز عشاء ، وكانت طويلة فناداها عمر بصوته الأعلى : " قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فنزلت آية الحجاب " {[55670]} .

ثم قال تعالى : { وما كان لكم أن توذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } أي : ما ينبغي ولا يصلح لكم أذى نبيكم ولا نكاح أزواجه من بعده لأنهن أمهاتكم ، فلهن حرمة الأمهات .

روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت آية الحجاب قال رجل من أصحاب رسول الله : أينهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على بنات عمنا ، أما والله لئن مات رسول الله وأنا حي لأتزوجن عائشة{[55671]} فأنزل الله تعالى وجل ذكره : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } إلى : { عليما }{[55672]} . فأعلمهم أنه يعلم ما يخفون في أنفسهم وما يبدون .

قال قتادة : قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مات رسول الله تزوجت فلانة ، امرأة من أزواج النبي{[55673]} .

قال معمر : الذي قال هذا طلحة لعائشة{[55674]} .

ثم قال : { إن ذلكم كان عند الله عظيما } أي : إن أذاكم نبيكم ونكاحكم أزواجه من بعده كان عند الله عظيما من الإثم .


[55661]:انظر: هذه الأوجه في اللسان "أني" 14/48
[55662]:انظر: هذا التعليل في مشكل الإعراب لمكي 2/589
[55663]:انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير تفسير سورة الأحزاب 6/25 وسنن الترمذي كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب 5/35، وما بعدها، وجامع البيان 22/37، وتفسير النسائي 2/186 وأسباب النزول 242، ولباب النقول 180ـ181
[55664]:انظر: جامع البيان 22/37، وأسباب النزول 241. والسويق طعام يتخذ من الحنطة والشعير انظر: اللسان مادة "سوق" 10/170
[55665]:هو قول الزهري في جامع البيان 22/37
[55666]:رواه ابن مسعود انظر: جامع البيان 22/40 وأحكام ابن العربي 3/1571، وتفسير ابن مسعود 2/500 والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب 613
[55667]:انظر: جامع البيان 22/40 وأحكام ابن العربي 3/1575 والدر المنثور 6/641
[55668]:انظر: جامع البيان 22/39 وتفسير النسائي 2،189 وأسباب النزول 243 وأحكام ابن العربي 3/1574 والمحرر الوجيز 13ـ94
[55669]:أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير تفسير سورة الأحزاب 6/24. وأورده الطبري في جامع البيان 22/39، والنسائي في تفسيره 2/187، والواحدي في أسباب النزول 243 وابن العربي في أحكام القرآن 3/1575 والسيوطي في الدر المنثور 6/639
[55670]:أخرجه البخاري في صحيحه من طريق عروة بن الزبير عن عائشة: كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب 6/26، وأورده الطبري جامع البيان 22/39، وابن عطية في المحرر الوجيز 13ـ94 وانظره أيضا في التفسير المأثور عن عمر بن الخطاب 612ـ613
[55671]:انظر: أسباب النزول 243، ولباب النقول 183
[55672]:الأحزاب الآيتين 53ـ54
[55673]:انظر: لباب النقول 193
[55674]:انظر: الجامع للقرطبي 14ـ228 والدر المنثور 6/663